«داعش» بين تهجير المسيحيين والصلح مع اليهود
جاد ابراهيم
كان حرف «النون» محاطاً بدائرة كافياً لكشف زيف المزاعم أن ما يحصل في العراق ثورة شعبية ذات قاعدة سنية يقودها حزب البعث وضباط سابقون ووجهاء عشائر ومجموعات أخرى من بينها «داعش»!
استيقظ أهل الموصل المسيحيون ليجدوا حرف «النون» مكتوباً على جدران منازلهم علامة على كونهم «نصارى»، بالترافق مع إعلان «داعش» تخييرهم بين اعتناق الإسلام أو دفع الجزية أو مواجهة الموت بحدّ السيف، خلال مهلة زمنية قصيرة. وأفادت معظم العائلات المسيحية من المهلة المعطاة فغادرت المئات منها الموصل بعدما جُرّدت من ممتلكاتها ولم يسمح لها إلاّ بالخروج بما من ملابس. وبعدما كانت الموصل تضم ذات يوم عشرات ألوف العائلات المسيحية، ها هي اليوم تفرغ منهم في ما يبدو أنه مخطط مدروس لتهجير المسيحيين من العراق وكامل منطقة المشرق العربي.
يطرح تهجير المسيحيين العراقيين أكثر من علامة استفهام حول الموقف الحقيقي للدول الغربية التي تحابي «داعش» وتحاول توظيفها في المواجهة الدائرة حالياً في المنطقة بينها وبين إيران وحلفائها. فلطالما تبجّح الغرب بحرصه على المسيحيين وحاول استغلال وجودهم في المنطقة من غير طائل. لكنه يقف اليوم ساكناً ساكتاً إذ لم يبرز موقف جدّي إلاّ من الفاتيكان ورجال الكنيسة العرب. ومن الواضح أن ذلك يندرج في سياق مخطط قديم ـ جديد يهدف إلى تفريغ المنطقة من المسيحيين وتقسيمها دويلات تتقاتل في ما بينها ويتسيّدها الكيان الصهيوني بصفته دولة اليهود في العالم التي تدافع عن نفسها في وجه المسلمين «البرابرة».
لكن «داعش» لم تكتف بحرف «النون»، إذ رسمت حرف «الراء» على بيوت «الرافضة» وعاملتهم معاملة النصارى. فالشيعة والزيدية والإسماعيلية وطوائف أخرى ممن يقيمون في الموصل تاريخياً لاقوا مصير إخوانهم المسيحيين نفسه، فبالنسبة إلى عقيدة «داعش» ونظام دولتها، تتسع دائرة «الأغيار» لكل من لم يبايع أو كان مخالفاً في الدين والمذهب. وبحسب قول بطريرك الكلدان الكاثوليك في العراق، لويس ساكو، فإن «هذا لم يحصل قط في التاريخ المسيحي أو الإسلامي، لا بل أن جنكيز خان أو هولاكو القائدان المغوليان لم يفعلا ذلك». وبالفعل، فإن ما قامت به «داعش» أمر غير مسبوق ويمكن اعتباره جريمة ضدّ الإنسانية لتقصّده القضاء على جماعة بعينها.
غير أن ما يجب التوقف عنده، في اعتقادي، أن تهجير المسيحيين من الموصل يؤكد بما لا يرقى إليه شك أن تنظيم «داعش» هو الذي يسيطر ميدانياً وهو القوة الأكبر والأكثر تأثيراً، ما يسقط ادّعاءات البعض في شأن الثورة الشعبية ودور البعثيين فيها. بل أن اشتراك مجموعات بعثية سابقة وبينها ضباط في هذه العملية العسكرية الانقلابية التي حصلت في العراق، دليل على أن هؤلاء ما عادوا بعثيين إنما التحقوا بالعباءة الإسلامية المتشدّدة. فليست الطائفية سمة من سمات البعث ذي الفكر القومي العابر للطوائف والطامح إلى بناء دولة على أسس مدنية. ولذلك يبدو أن الهدف الفعلي من الترويج للثورة الشعبية البعثية ـ العشائرية ـ السنّية ذر الرماد في العيون وتسهيل تدخل جهات إقليمية من موقع نصرة السنة المعتدلين، في حين تتقدم على الأرض جماعات إسلامية متشدّدة من ذرية تنظيم «القاعدة» الإرهابي ذي الأصول الفكرية الوهابية.
إن الانتباه إلى وقوف دول مثل السعودية وتركيا خلف تنظيم «داعش» يساعد أكثر في فهم أسباب تهجير المسيحيين من الموصل من جهة، والإعلان عن قيام دولة الخلافة من ناحية أخرى. فالإسلام الأردوغاني لا يختلف عن الإسلام الوهّابي في عدائه وكرهه للمسيحيين، كما أن الطموحات الإقليمية للدولتين الكبيرتين تتطلب لتحقيقها وجود تيارات إسلامية سنية في السلطة داخل لدول المجاورة، تشكل أدوات لتمدّد النفوذ الخارجي وللهيمنة على أبناء الطوائف أو الديانات الأخرى. وفي ذلك كلّه تسعى الدولتان «الإسلاميتان»، اللتان تؤمنان بالصلح مع اليهود إلى قطع سلسلة المحور الممانع الممتد من طهران إلى فلسطين وهو المحور الذي لا يزال يطرح مسألة إزالة الاحتلال «الإسرائيلي» والقضاء على كيانه الغاصب. فبحسب بعض الأدبيات الإسلامية والتاريخية، كان الصراع الديني التاريخي بين اليهود والمسيحية، فيما شهدت العلاقات اليهودية الإسلامية عهود سلام وتعاون. ويبدو أنّ بعض التيارات المتشدّدة ترى أن التخلّص من المسيحيين سيسهّل الطريق أمام صلح تاريخي بين اليهود والمسلمين في فلسطين، في نظرة لاعقلانية تنظر إلى القضية الفلسطينية من منظار ديني بحت، متجاهلة أبعادها القومية والإنسانية على السواء.
تلعب «داعش» اليوم، في قيامتها وخلافتها وتهجيرها المسيحيين، دوراً متقدّماً في الخطة الاستعمارية التي لم تتوقف يوماً، والهادفة إلى تفتيت دول المنطقة وتفسيخ نسيجها المجتمعي وتصفية القضية الفلسطينية بحجة أن اليهود هم أبناء عمومة. ولذلك ليس مسموحاً أن يترك أمر القضاء عليها للعراقيين وحدهم، فهي أداة إقليمية دولية قد تكون صعبة هزيمتها من دون مشروع إقليمي مضادّ.