إيران «وضميرها الأقصى»

د. محمد شعيتاني

مما لا شك فيه أنّ المرء لا يستطيع أن ينظر إلى علاقة إيران بحركات المقاومة في فلسطين ولبنان بالعين ذاتها التي ينظر بها إلى علاقاتها بالدول العربية والأطراف العربية الفاعلة الأخرى. ولا يعزا هذا التمييز إلى «محور المقاومة» وحده، والذي يربط الجمهورية الإسلامية بحزب الله وحماس وسورية، وإنما يعود بصورة أساسية إلى مركزية القضية الفلسطينية التي تشكّل جوهر هذا التحالف الاستراتيجي وتحدّد معالم السياسة الخارجية الإيرانية بشكل عام.

ومن أجل فهم أكثر وضوحاً لعلاقات إيران بالعالم العربي، من المفيد دراسة طبيعة التزامها بالقضية الفلسطينية ونطاقها، وذلك بالاعتماد على المتغيرّات السببية التالية: الإيديولوجيا والأمن القومي والمصالح الاستراتيجية والأمن «الأنطولوجي» أمن الهوية . وفي المقابل، تتحكّم بهذه المتغيّرات عوامل تاريخية ودينية وثقافية وسياسية حاسمة عملت على تكريس ثابتين إيديولوجيين واستراتيجيين يتمثلان في رفض الجمهورية الإسلامية لـ«إسرائيل» من ناحية، وفي قدسية القضية الفلسطينية من ناحية أخرى.

قدسية قضية فلسطين

وقد أثبتت تصريحات القيادات الإيرانية قدسية تلك القضية عندما اعتبروا فلسطين «القضية الأهمّ في عصرنا، وبأنها أكبر ظلم عرفه التاريخ. وكان آية الله أكبر هاشمي رفسنجاني، وهو يعتبر إلى حدّ كبير «درع» المعارضة الإصلاحية «الحركة الخضراء»، إنْ لم يكن مهندسها، قد ردّد الرأي ذاته إذ صوّر القضية الفلسطينية على أنها «هم إيران الرئيس».

ولكن ما هو أهمّ من تصريح رفسنجاني، كون كلّ من «البراغماتيين» و«المعتدلين» مثل رفسنجاني في السياسة الخارجية الإيرانية المعروفة يشعرون بأنهم مجبرون على توجيه تحية تقدير وإجلال إلى فلسطين، وتأكيد أهميتها الكبرى في الخطاب السياسي الإيراني وفقاً للتقليد الخميني.

وعلى الرغم من الخلافات السياسية العديدة بين الطرفين الرئيسين، إلا أنّ كلاهما يدّعي تبنيه «خط الإمام» الخميني والتزامه بمبادئ السياسة الخارجية التي رسم خطوطها العريضة، وفي مقدّمتها، اعتبار «إسرائيل» شيطاناً من ناحية، وتبجيل فلسطين من ناحية أخرى.

في الواقع وقبل اندلاع الثورة الإسلامية بخمسة عشر عاماً، احتلت القضية الفلسطينية مقدّمة اهتمامات الخميني، وذلك لحظة إطلاقه حملته الثورية في الستينات. وقد كانت فلسطين الفكرة البلاغية المهيمنة على خطاب المرشد الأعلى السيد علي خامنئي الذي اتبع خط الإمام الخميني من خلال منحه فلسطين مرتبة لا مثيل لها حين اعتبرها المشكلة «الأهمّ» في العالم الإسلامي. فدأب على ذكرها مراراً وتكراراً أكثر من أيّ قضية أخرى خلال العقدين الأخيرين الحافلين بالخطب. واعتبر المرشد الأعلى، إثر العدوان على غزة، أنّ الشعب الفلسطيني «الذي يستحق حقاً أن يُقال عنه إنه أكثر شعوب التاريخ صموداً».

ويذهب المرشد الأعلى الحالي لإيران أبعد من ذلك حين يعتبر القضية الفلسطينية «معيار» قياس التزام المرء بالحرية وبحقوق الإنسان»، وهو اختبار يبدو أنّ الرئيس أوباما وشعاره الدّاعي « للتغيير» قد أخفق فيه، وفقاً لخامنئي، كون إدارته ما زالت «تكذب بوضوح في قضية فلسطين وقضايا أخرى».

ويمكن العودة بأصول هذين الخطابين المترابطين بشأن كون «إسرائيل» وفلسطين، يشكلان دعامتين للسياسة الخارجية الإيرانية، إلى تاريخ إيران المعاصر والذي اتسم بإرث من السيطرة الخارجية من قبل الولايات المتحدة الأميركية و«إسرائيل» – وهما داعمان مخلصان لنظام الشاه بهلوي المستبدّ. وقد عارض الخميني وعلماء آخرون بشدّة، عقوداً قبل اندلاع الثورة، علاقات الشاه الوثيقة بـ«إسرائيل».

وكان من بين «أسباب» «معارضة» الخميني للشاه، تحويل هذا الأخير الاقتصادَ الإيراني إلى سوق لاستيراد كميات كبيرة من السلع والبضائع «الإسرائيلية»، في حين رفع صادرات النفط الإيرانية إلى «إسرائيل» بهدف تلبية احتياجاتها. وقد سحق جهاز الأمن سيّئ السمعة «السفاك»، أصواتاً معارضة. وكانت الولايات المتحدة الأميركية والموساد أساس «السفاك» ودعمه، إلى حين اندلاع الثورة، ما جعل الخميني يتساءل مرة ما إذا «كان الشاه إسرائيلياً؟».

وتسبّبت تلك الاتهامات بالتحديد، والمناهضة لاعتماد «الشاه الخائن» على الولايات المتحدة و«إسرائيل»، بتوقيف الخميني في الثالث من حزيران 1963، مما أدّى إلى اندلاع الانتفاضة الشعبية المعترضة على توقيفه، والتي عرفت باسم «حركة 15 خورداد»، وقد بلغت ذروتها بعد خمسة عشر عاماً في الثورة الإسلامية في إيران.

في الواقع، يكمن جزء كبير من جذور الثورة الإسلامية، في كونه ردّ فعل على هيمنة الولايات المتحدة وتسلل «إسرائيل» إلى الاقتصاد والأمن الإيرانيين. وبالتالي، كانت الثورة تمرّداً على الملكية وحرباً للتحرير على الإمبريالية الأميركية والتدخل «الإسرائيلي» الكثيف في آن واحد، وذلك وفقاً لشعار الثورة الرئيس «استقلال، حرية، جمهورية إسلامية..

تزامنت دعوة الخميني لتحرير فلسطين من النظام الصهيوني مع دعوته لتحرير إيران من الاستعمار، وذلك برفعه الشعار الثوري «اليوم إيران وغداً فلسطين». لهذا الغرض، أصدر الخميني في شهر تشرين الأول 1968، فتوى دينية بخصوص واجبات المؤمنين بشأن تخصيص جزء من الخمس ضريبة الزكاة الدينية لمساعدة المقاتلين الفلسطينيين. واتسمت الدعوى بطابع غير مسبوق نظراً لكون الفلسطينيين المستفيدين من الخمس ينتمون إلى منظمة التحرير الفلسطينية العلمانية ولم يكونوا من الشيعة.

ما إنْ تسلّمت الثورة زمام السلطة، حتى تجلت إحدى أولى مهامها في استبدال السفارة الفلسطينية بالسفارة «الإسرائيلية» وإغلاقها. وفي السنة ذاتها، أعلن الخميني آخر جمعة من شهر رمضان «يوم القدس» كفعل «تضامن دولي للمسلمين ليدعموا الحقوق الفلسطينية المشروعة للشعب المسلم في فلسطين»، وهو أيضاً «يوم للضعفاء والمستضعفين لمواجهة قوى الاستكبار». ويقوم الدعم لفلسطين على أسس أخلاقية ودينية كما يشير الثنائي المكوّن من «المستكبرين» المضطهِدين مقابل «المستضعفين» المضطهَدين : «نحن نساند المضطهَدين أياً كان القطب الذي ينتمون إليه. فالفلسطينيون يضطهدهم الإسرائيليون، إذاً نحن نساندهم».

وفي سياق مماثل، تزامن رفض الاعتراف بـ«حق إسرائيل في الوجود»، مع ذريعة علمانية أخلاقية تقرّ بحق تقرير المصير الوطني. وفي هذا الصدد، تعتبر «الدولة اليهودية» غير شرعية إذ إنها تأسّست على حساب حقوق شعب آخر، وهي «اغتصبت» منه من هنا تتكرّر كلمة «الغاصب» ما إن تذكر «إسرائيل». ويحق بالتالي، للشعب الفلسطيني، لا بل إنه ملزم، باسترداد فلسطين التاريخية كلها، إذ رأى الخميني «لا فرق بين مناطق 48 وأراضي 67»، لأنّ فلسطين كلها سلبت».

ووفقاً لذلك، رفض الخميني وآخرون التزموا خطه، جميع أشكال مفاوضات السلام مع «إسرائيل»، معتبرين إياها غير مشروعة دينياً: «إنّ إقامة علاقات مع إسرائيل أو مع وكلائها، سواء كانت تجارية أو سياسية، أمر ممنوع ومخالف للإسلام». وردّد علي أكبر محتشمي، وهو رجل دين إصلاحي بارز وهو داعم أيضاً للـ»الحركة الخضراء» هذا الحظر الديني عندما أعلن أنّ «المشاركة في مؤتمر أنابوليس للسلام غير شرعي من وجهة نظر دينية».

وتجدر الإشارة إلى أنّ القضية الفلسطينية من منظور الخميني، ليست فقط قضية وطنية تخصّ الشعب الفلسطيني وحده، وإنما قضية تخصّ جميع المسلمين، لأنّ مدينة القدس كانت «أولى القبلتين» وبالتالي فإنها «تخصّهم». على هذا النحو، على كلّ مسلم واجب ديني وأخلاقي هو «التسلّح ضدّ إسرائيل» وتحرير القدس. وكونها جسماً غريباً «زرعته قوى الظلم والطغيان والاستكبار في قلب العالم الإسلامي»، تمثل «إسرائيل» تهديداً وجودياً، لا للقدس ولفلسطين فحسب، وإنما للعالم العربي والإسلامي كله أيضاً. هذا «الورم الخبيث» أو «الغدة الخبيثة»، أو «الفيروس»، كما كان الخميني يصفها، عدو «أسس الإسلام» و«الإنسانية».

وقد لُعنتْ «إسرائيل» على أسس دينية وأخلاقية كونها «نواة الشرّ» و«وكراً للفساد». «لا يزال صدى وصف «إسرائيل» بالشيطان يتردّد رجعه في الخطاب الإيراني الرسمي، مع دأب المرجعيات الدينية على وصف «إسرائيل» بأنها «الشيطان الصغير»، و«عَلَم الشيطان» و«تجسيد للشيطان..

صحيح أنّ البعض في العالم العربي وخارجه انتقد إيران لتقاعسها عن تحويل خطابها بشأن فلسطين إلى فعل خلال الغزو الإسرائيلي لغزة عام 2009، إلا أنّ مثل هذه الاتهامات أغفلت لهجة الجمهورية الإسلامية القاسية تجاه الأنظمة العربية في أثناء الحرب وبعدها. إذ إنّ طهران خرّبت علاقاتها بالأنظمة العربية بعد أن كانت سارت بها قدماً بجهد جهيد، وذلك من خلال استعادتها خطاب عاطفي يذكّر بأواخر الثمانينيات عندما كانت إيران «تصدّر الثورة» إلى الدول العربية المجاورة.

وبقيامها بذلك، قوّضت إيران عقدين تميّزا بتقارب ديبلوماسي أطلقه الرئيس رفسنجاني واستمرّ حتى الرئيس أحمدي نجاد الذي سعى بالتزامه بقضايا العالم العربي إلى مواجهة حملة إدارة الرئيس جورج بوش التي حرّضت الحلفاء العرب «المعتدلين» ضدّ إيران وأثارت التوترات السنية ـ الشيعية. ولا بدّ من النظر إلى الهجوم اللفظي والكتابي على الأنظمة العربية في هذا السياق الخاص.

ومع ذلك، ونظراً للدعم الذي وفرته الأنظمة العربية، ولا سيما مصر، للمغامرة العسكرية «الإسرائيلية» في غزة، ناهيك عن المعرفة المسبقة لمصر بالغزو، والذي أكدته رسمياً وثائق «ويكيليكس»، تحوّلت النظرة العامة للدور العربي من «التواطؤ» و«التعاون الخفي» مع «إسرائيل» في حرب تموز 2006، إلى «تعاون» و«شراكة» صريحين مع الدولة الصهيونية في حربها ضدّ غزة.

وفي مواجهة مثل هذه الخيانة الصارخة، لم يعد بإمكان إيران الحفاظ على سياسة ضبط النفس تجاه محاوريها العرب. وانتقد خامنئي «الصمت المشجع» للدول العربية المعتدلة، ناعتاً إياهم بأنهم «العرب الخونة»، في حين نسب أحمدي نجاد إليهم بسخرية «ابتسامات الرضا» أثناء «إبادة جماعية لم يسبق لها مثيل»، مشيراً إلى «أنهم كانوا مع العدو في كلّ أهدافه».

وفي خطوة غير مسبوقة منذ انفراجها الأخير مع العالم العربي، خصّت إيران مصر بالهجوم، ليس فقط بسبب حصارها لقطاع غزة، وإنما أيضاً لـ«احتضانها العلني» لـ«إسرائيل» كما وصفته صحيفة «هآرتس» «الإسرائيلية». وتجدر الإشارة إلى أنه في تحوّل جذري من خطابه الدبلوماسي المعهود، ندّد الرئيس الإيراني السابق «بخونة القضية الفلسطينية الذين قالوا للفلسطينيين قبل بضعة أيام من الهجوم أنّ الوضع كان هادئاً»، وذلك في إشارة مبطنة إلى نظام مبارك آنذاك، والشعور الزائف بالأمان الذي أوحى به لـ«حماس» قبل الهجوم «الإسرائيلي». صحيح أنّ النظام السعودي لم يكن مذنباً بالقدر الذي كان النظام المصري، إلا أنّ الأسرة المالكة في السعودية لم تفلت من ازدراء إيران، وذلك كما تبيّنه رسالة أحمدي نجاد آنذاك إلى الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز، إذ حثه فيها على «كسر صمته عن مجزرة تنفّذ في غزة واتخاذ موقف واضح من قتل أطفالك، الذين هم غاليين على الأمة الإسلامية».

وفي الوقت الذي كانت فيه الجمهورية الإسلامية تنتقد الأنظمة العربية لخيانتها لفلسطين، معرّضة بذلك علاقاتها معهم للخطر، كانت في الوقت نفسه تدعّم أحد مواقعها كونها المدافع عن حقوق الفلسطينيين، أيّ هي ضمن «الدولة الراعية للإرهاب الأكثر فعالية»، وفقاً لقائمة وزارة الخارجية الأميركية لـ«الدول الراعية الإرهاب،» والتي دأبت على ذكر إيران منذعام 1984.

ووفقاً لما تشير إليه «تقارير البلدان بشأن الإرهاب» لعام 2009 الصادرة عن وزارة الخارجية، «ما زالت إيران الداعم الرئيسي للمجموعات التي تعارض بعناد عملية السلام في الشرق الأوسط»، أيّ حماس والمجموعات الفلسطينية الأخرى، إضافة إلى حزب الله الذي استمرّت في تقديم «الدعم المالي والمادي واللوجستي إليه».

دعم المقاومة

إنّ العلاقات الوثيقة التي تربط بين الجمهورية الإسلامية وحركات المقاومة ورفضها لما يسمّى «عملية السلام» تجعلها عرضة للمكائد التي تحيكها واشنطن وتل أبيب، وذلك إذا ما تمّ تناولها في سياق تاريخ الدسائس التخريبية للولايات المتحدة لأميركية في إيران – وآخر دليل عليها الاضطرابات التي اندلعت عقب انتخابات 2009 والتي تبيّن إنها نشبت في جزء كبير منها تنفيذاً لمخطط للولايات المتحدة و«إسرائيل».

ويتوضّح تهديد الدعم للقضية الفلسطينية للأمن القومي الإيراني في اقتراح «الصفقة الكبرى» التي طرحت في واشنطن من قِبل المسؤوليْن الليبرالييْن «فلينت ليفرت وهيلاري مانليفيرت». ووفقاً لهذا الاقتراح، توافق طهران على التخلي عن التزامها بالقضية الفلسطينية وعن تقديم الدعم لحركة المقاومة الفلسطينية وحزب الله، وغيرها من التنازلات، في مقابل حصولها على ضمانات بأنّ الولايات المتحدة ستمتنع عن القيام بأيّ نشاط يهدف إلى تغيير النظام.

هذا ولا يشكّل التزام إيران بالقضية الفلسطينية تهديداً لاستقرارها السياسي فحسب، وإنما يعرّض مصالحها الاستراتيجية للخطر. فعلى الرغم من تركيز الولايات المتحدة على برنامج إيران النووي، ومحاولاتها العقيمة لتوجيه الضربات المتكرّرة إليها بهدف إخضاعها بواسطة العقوبات، إلا إنه لولا دعم طهران لحركات المقاومة في فلسطين ولبنان، فإنه يرجّح أن تغضّ واشنطن الطرف عن برنامج تسليح نووي إيراني، لا بل إنها قد تساهم في أحد هذه البرامج كما تفعل مع حلفائها، ألمانيا وبلجيكا وكندا واليونان وايطاليا وهولندا وتركيا ضمن إطار سياسة التبادل في منظمة حلف شمال الأطلسي الناتو في ما يخصّ الأسلحة النووية.

ويظهر هذا الاستنتاج جلياً لدى إصرار إدارة الرئيس جورج بوش المستمرّ على الربط بين البرنامج الإيراني المزعوم لأسلحة الدمار الشامل من جهة، وتحالف إيران مع «مجموعات إرهابية». كما ويتجلى في خطاب «حالة الاتحاد» الذي ألقاه جورج بوش في 29 كانون الأول 2009، والذي وصف فيه إيران بأنها جزء من «محور الشّ» تتسلّح لتهدّد السلام في العالم»، بواسطة الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية التي تسعى وفقاً لزعمه، لتقديمها إلى حلفائها الإرهابيين.

وبطريقة ممائلة، جزمت مستشارة الأمن القومي حينها، كوندوليزا رايس بأنّ «الدعم المباشر الذي تقدّمه إيران للإرهاب الإقليمي والعالمي، إضافة إلى جهودها العدوانية للحصول على أسلحة الدمار الشامل، تتناقض مع أيّ نوايا حسنة كانت قد أبدتها في أعقاب الهجمات الإرهابية العالمية الأسوأ في التاريخ.» ولم تكمن مشكلة واشنطن في ذلك الوقت، في سعي إيران المزعوم للحصول على الأسلحة النووية بحدّ ذاته، وإنما في كون دولة متحالفة مع فصائل المقاومة الفلسطينية تسعى للحصول عليها.

صحيح أنّ التزامات إيران تحرير فلسطين التاريخية يعرّضها لخطر التهديدات الأمنية الخارجية إضافة إلى تهديدات داخلية تحرّض عليها قوى خارجية في المدى المتوسط ويقوّض بعض مصالحها الاستراتيجية في المدى القصير، إلا أنّ وفاء الجمهورية الإسلامية لمبادئها الايديولوجية يجعلها تجني مكاسب على المدى الطويل وذلك في المجالين المذكورين آنفاً. ففي المقام الأول، إنّ تاريخ «إسرائيل» في التدخل في الشؤون الإيرانية قبل اندلاع الثورة الإسلامية، يجعلها تشكل تهديداً مستمراً لاستقلال ايران، وبالتالي يعرّض استقرارها السياسي للخطر. ويثبت ذلك تأكيد محتشمي أنّ تحرير فلسطين يضمن أمن نظام إيران السياسي: «من الطبيعي أنه في حال استعاد الشعب الفلسطيني حقه المشروع، لا بدّ من أن تشهد حتى التهديدات الخارجية ضدّ جمهورية إيران الإسلامية، انخفاضاً ملحوظاً».

أما في المقام الثاني، فإنّ إيران لا ترى في المقايضة مع الأميركيين بشأن فلسطين، وسيلة للحفاظ على أمنها القومي من الاضطرابات الداخلية أو ضماناً لتحقيق أهدافها الاستراتيجية من دون قيود. وليست المبادئ الايديولوجية، مثل السيادة والاستقلال والاكتفاء الذاتي والكرامة قيماً مجردة، بل ضرورات استراتيجية انبثقت من التجربة التاريخية لإيران في السيطرة الأجنبية.

مساوئ التبعية

وقد تعلّم الإيرانيون من سقوط نظام الشاه المدعوم من الولايات المتحدة و«إسرائيل» أنّ سياسة التبعية التي مارستها إيران قبل الثورة كانت وصفة أكيدة للإصابة بالوهن الاستراتيجي والانهيار الداخلي. ولا بدّ أن يؤدّي تبدّد الكرامة والسيادة الوطنيين إلى التشكيك في الأساس الإسلامي والثوري لتفويض النظام، بالإضافة إلى وطنيته، ما يؤدّي إلى زعزعة استقرار النظام.

ويعبّر متكي عن هذا المنطق بوضوح، لدى توجيهه نداء إلى الدول العربية والإسلامية لدعم فلسطين كوسيلة لخدمة أمنها القومي: «لا يشكّل هذا الدعم إنفاقاً فحسب، بل استثمار لأمن بلداننا.» في حين شرح خامنئي أثناء الحرب على غزة، كيف أنّ التزاماً أعمق بالقضية الفلسطينية قد يعزّز الأمن القومي للدول العربية، محذّراً ضمناً الحكومات التي لا تدعم المقاومة الفلسطينية من زعزعة غير مقصودة لاستقرارها من قبل معارضة داخلية، كون شعوبها قد استيقظت وباتت تطالب بمزيد من الدعم لفلسطين».

في ضوء هذه التحذيرات، تدرك إيران بوضوح أنّ احتمال حدوث «الصفقة الكبرى» بشأن فلسطين قد يفضي إلى مصير مماثل لحلفاء الولايات المتحدة الأميركية الذين بالكاد يمثلون قصة نجاح تستحق منافسة الجمهورية الإسلامية. أما من وجهة نظر طهران، فالولايات المتحدة تستخدم الدعم السياسي والعسكري لهذه الأنظمة باعتبارها أداة لانتزاع تنازلات سياسية، ما يجعلها مدينة لها. وعلاوة على ذلك، وبسب خيانة الدول العربية لفلسطين واعتمادها على الولايات المتحدة الأميركية لدعم أنظمتها داخلياً، باتت تعتبر، من جراء هذه العملية، فاقدة لسيادتها ولاستقلالها ولموقعها الإقليمي، ناهيك عن شرعيتها الشعبية.

ولدى التطلّع إليه من هذا المنظور، تحوّل التأييد للقضية الفلسطينية إلى ميزة استراتيجية بالنسبة إلى إيران، كونه مكّنها من تصدير ثقافتها السياسية في التحرير الإقليمي، والتي بدورها، أسهمت في تعزيز موقعها كقوة إقليمية. ويشرح الرئيس السابق مجلس الشورى الإسلامي الإيراني غلام علي حداد عادل بإيجاز قائلاً: «إيران تنعم بالقوة وتحظى بالشعبية في المنطقة لأنها تدافع عن استقلال الشعوب وتعارض هيمنة الولايات المتحدة في المنطقة.»

وتؤمن إيران بأنها من خلال استقلالها عن الغرب، لن تخضع لأيّ بتزاز، كما هو حال الحلفاء الإقليميين للولايات المتحدة الأميركية الذين اضطروا للتخلي عن القضية الفلسطينية، وبالتالي قوّضوا الشرعية الشعبية لأنظمتهم، في مقابل أمن أنظمتهم بدلاً من الوطني الذي لا يعدو في نهاية المطاف إلا كونه مساوياً لبقاء النظام نظراً للتدابير القسرية اللازمة للحفاظ عليه.

وبالتالي، تعتبر الجمهورية الإسلامية سياستها الخارجية نموذجاً قد تحتذيه الأنظمة العربية. وهو نقيض لمنطق الواقعية الذي تبناه أمثال الرئيس مبارك الذي يعتبر أنّ المقاومة قد أخفقت في «اختبار الكلفة والمنفعة». فإيران عازمة على إثبات أنّ الايديولوجية والمصالح الوطنية ليست فئات حصرية، أيّ انّ تحقيق إحداها يأتي على حساب الأخرى. ففي التشكّل المعرفي للجمهورية الإسلامية، قد يتمّ التوفيق بين المبادئ والقيم السياسية والمصالح الاستراتيجية، لا بل إنها قد تعزّز بعضها بعضاً. وبالطريقة ذاتها، قد يتعايش أمن الهوية السياسية للجمهورية الإسلامية مع أمنها القومي ويؤسّس له.

ومن شأن أيّ تغييرات أساسية تطرأ على أهداف السياسة الخارجية الإيرانية، في ظلّ غياب تحوّل مقابل في السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، أن تعني أساساً أنّ الدولة الإيرانية قد انقلبت على مبادئها التأسيسية، وقوّضت نفسها. وإذا كانت إيران لتصبح واحدة من حلفاء أميركا المعتدلين في المنطقة، فستفقد الثورة الإسلامية معناها وستتحدّى عندها الجمهورية الإسلامية سبب وجودها وتستعيد هوية ما قبل الثورة التي منحها إياها الشاه.

وهكذا، أنّ الثورة كانت مدفوعة جزئياً بالنضال من أجل الحرية والاستقلال الوطني، وكان وجود الجمهورية الإسلامية بحدّ ذاته ردّ فعل وهويتها دفاعية. أصبحت إيران دولة مشغولة بالحفاظ على استقلالها وكرامتها اللذين تمّ اكتشافهما حديثًا. وبما أنّ الخوف من الهيمنة الأجنبية كان متجذّراً في الثقافة السياسية تمّ وضع ضمانات دستورية لحماية البلاد من السيطرة الأجنبية والحفاظ على «محورية خطاب» الاستقلال أو «الإفراط في الاستقلال» كما عبّر عنه أحد الأكاديميين.

وكما تبيّن المادة 152 من الدستور: «تقوم السياسة الخارجية الإيرانية على نبذ جميع أشكال الهيمنة، ممارسة وخضوعاً، وعلى الحفاظ على استقلال البلاد، وعلى الدفاع عن حقوق جميع المسلمين، وعلى عدم الانحياز في ما يتعلق بالقوى العظمى المهيمنة.

وقد عملت الجمهورية الإسلامية على تأصيل خطابها بشأن العدالة والمقاومة وجعلته دستورياً، مؤكدة إلى جانب أهداف أخرى، «التزامها الأخوي تجاه جميع المسلمين ودعمها الوافر لمضطهدي العالم». وتتكرّر فكرة دستورية وبلاغية ألا وهي «محاربة الاضطهاد»، وهو أمر أساس بالنسبة إلى الدستور الإيراني تماماً كما هي مبادئ الحرية والتحرّر في الدساتير الديمقراطية الغربية.

إذا كانت الجمهورية الاسلامية تسعى، أياً كانت نواياها وأهدافها، للتوصل الى عقد صفقة كبرى مع واشنطن، فلا بدّ من أن تفقد هويتها كوطن مستقلّ ومقاوم يسعى لتحقيق العدالة. إنّ هذه الهوية السياسية هي العنصر الحاسم الأكثر أهمية لبقاء الجمهورية الإسلامية مقارنة بأمنها ككيان تنظيمي. ويبدو الأمن ككيان قائم على الفكرة أكثر أهمية بالنسبة إلى طرف فاعل ايديولوجي، مثل إيران، لأنه إذا استبدل هويته بهوية أخرى، يموت لا محالة، ويصبح كياناً مختلفاً تماماً حتى لو كان بقي سليماً تنظيمياً.

رئيس هيئة حوار الأديان

باحث في الشؤون الاقتصادية والسياسية والدينية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى