حدود لبنان بين الطمع «الإسرائيلي» والإرهاب التكفيري

العميد د. أمين محمد حطيط

في أسبوع واحد اجتمع الخطران التكفيري والصهيوني للمسّ بالحدود اللبنانية أمناً ووجوداً، ففي الوقت الذي اعتدت فيه جماعات إرهابية على ورشة للجيش اللبناني تجهّز برج مراقبة في حنيدر عكار، وترافق الأمر مع تهديد بتوسّع «داعش» في منطقة عرسال وجرودها إثر معاركه مع التنظيم الإرهابي الآخر «جبهة النصرة»، كان صادماً ما تمّ تناقله إعلامياً حول الحدود اللبنانية البرية لجهة نفي وجودها وتبرّع البعض بطلب ترسيم حدود بديلة أو اعتماد خط أزرق بحري مكمّل للخط الأزرق البري في جنوب لبنان، الأمر الذي يطرح بشكل جدّي وغير مسبوق مسألة جدّية المخاطر التي تتهدّد لبنان في حدوده على الوجهَيْن الأمني والحقوقي، طرحاً يوجبه ما تسرّب أو ما ظهر من سلوك بعض اللبنانيين من أوساط مختلفة، سلوك ينمّ عن تفريط وتساهل مقصود أو غير مقصود، فالأمر سيّان لأنّ النتيجة واحدة وهي هدر الحقوق اللبنانية في الأرض والسيادة.

ونبدأ بالجانب الحقوقي وتحديداً من زاوية ما أشيع من نفي لوجود حدود برية للبنان، وهو أمر بالغ الخطورة، والمؤسف فيه ما قام لبنانيون مسؤولون رسميون وغير رسميين بتداوله ثم مساهمة بعض الإعلام اللبناني بترويجه، وهنا ولأنّ الأمر سبق واستوفاه النقاش سابقاً وحسم الجدل حوله خاصة في الدراسة التي قدّمتُها للمتحاورين في العام 2006 في معرض ما أسمي الحوار الوطني في مجلس النواب، الدراسة التي اعتمدت كوثيقة من وثائق الحوار والتي حسم فيها الأمر، بأنّ للبنان قسمين من الحدود قسم مع فلسطين المحتلة وقسم مع سورية ولكلّ منهما نظام.

فالجزء الأول مكرّس قانوناً بموجب اتفاقية بولييه نيوكمب التي تضمّنت علامات حدودية محدّدة بإحداثياتها، للبنان منها 38 علامة من أصل 78 علامة وهي مرسّمة على خرائط مقياس 1 20000 و1 50000 ومصادق عليها من قبل دولتي الانتداب بريطانيا وفرنسا ومودعة لدى عصبة الأمم التي صادقت عليها في العام 1934، والمؤكد عليها في اتفاقية الهدنة في العام 1949 الموقعة بين لبنان و«إسرائيل»، الاتفاقية التي أكدت على أنّ خط الهدنة مطابق لخط الحدود الدولية.

وعندما حاولت الأمم المتحدة وبالتواطؤ مع «إسرائيل» في العام 2000 القفز فوق هذه الحقائق تصدّى لبنان لها وكنتُ رئيساً للجنة العسكرية اللبنانية المختصة، وأكدنا واعترفت الأمم المتحدة أنّ للبنان مع فلسطين المحتلة حدوداً دولية لا تمسّ وأنّ الخط الذي جاءت به الأمم المتحدة والذي كان في صيغته الأولى يختلف مع خط الحدود في 13 نقطة ومنطقة تراجعت الأمم المتحدة عن 10 نقاط منها، وبقيت نقاط خلافية ثلاث تحفّظ لبنان عليها، وتمّ تأكيد أنّ هذا الخط المتحفّظ عليه ليس هو الحدود ولا يمسّ بأيّ حق من حقوق لبنان في حدوده، ولذا أسمي بالخط الأزرق لتمييزه عن خط الحدود الذي يرسم عادة بالأسود. والكلّ يذكر أننا ومنذ العام 2000 طالبنا الجميع بعدم اعتماد عبارة الخط الأزرق في أدبياتهم السياسية، لأنّ هذا الخط بدعة أممية حاولت الأمم المتحدة فرضها لقضم أرض لبنان وفشلت في محاولتها.

أما الجزء الثاني من الحدود وهو بين لبنان وسورية، فإنه محدّد بشكل وصفي ورد في القرار 318 الذي أعلن لبنان الكبير وحدوده، حدود هي في طابعها الغالب تمرّ على خط القنن أيّ رؤوس الجبال والأودية أو في وسط المجاري المائية كما هو الحال في النهر الشمالي الكبير، وبقي أمر أثير حوله نزاع في مزارع شبعا، حسمته لجنة غزاوي وخطيب في العام 1946 التي أقرّت للبنان بحقه في المزارع في حدود الملكيات العقارية للمواطنين اللبنانيين وفقاً لقيود السجلات العقارية اللبنانية والذي ترجم ميدانياً حتى وصل إلى وادي العسل شرق شبعا.

هذه الحقائق تعرفها الأمم المتحدة وتقرّ بها وأوردتها أكثر من مرة في وثائقها التي كان آخرها تقرير للأمين العام للأمم المتحدة المرفوع إلى مجلس الأمن في 22/5/2000، وبالتالي فإنّ أيّ قول آخر يكون مجافاة للحقيقة وكذباً على الواقع، وإنْ كان عن قصد فهو جريمة، وإنْ كان عن غير قصد فيكون تسهيلاً لجريمة يرتكبها العدو بحق أرض لبنان.

إنّ «إسرائيل» التي اقتلعت المعالم الحدودية التي صانتها لجنة الهدنة ما بين العام 1949 و1967، والتي أخفت خرائط الحدود الدولية والتي تطرح فكرة عدم وجود حدود، تريد أن تدخل مع لبنان في تفاوض حول الحدود لترسيم حدود جديدة، ولهذا تصرّ هي وأجهزتها والمتعاطفون معها على اعتبار الخط الأزرق بمثابة الحدود على حدّ ما وصف جنرال «إسرائيلي» متقاعد مؤخراً، وإذا كان لـ»إسرائيل» مصلحة في هذا الإنكار، فإننا نسأل عن مصلحة لبنان أو بعض اللبنانيين في مجاراة «إسرائيل» في طرحها؟ وهل يُعقل أن يفرّط أحد بحق ثابت له في يده، ثم يدخل مع عدوّه في تفاوض عليه لاستعادته؟ الجواب قطعاً لا، وإلا يكون في الأمر حمق موصوف إذا أحسنّا الظنّ، وإلا فإنه يكون جريمة ترتقي إلى مستوى الخيانة إنْ حصلت.

لذلك نرى أنّ على لبنان ألا يفسح المجال أمام أيّ طرح يتناول حدوده الثابتة والمعترف بها، حتى أنّ عليه ألا يطرح فكرة ترسيم خط أزرق بحري، لأننا أصلاً لا نقيم للخط الأزرق البري أهمية بعد أن استنفد دوره في التحقّق من الاندحار «الإسرائيلي» وليتذكّر دعاة هذا الأمر أنه لا يوجد في القانون الدولي خطوط زرق وغيرها، بل هناك خط حدود وخط هدنة ولا شيء سواهما. وخط الحدود يرسم باتفاق الفريقين لأنّ الحدود اتفاقية، وتعديله يكون اتفاقياً أيضاً وليس لبنان بحاجة إلى اتفاق مع «إسرائيل» ليرسم حدوده البرية معها، فالحدود موجودة ولسنا بحاجة لإعادة النظر فيها.

أما بحراً فإنّ ما ورد في اتفاقية أوتاوه لرسم الحدود البحرية والمناطق الاقتصادية الخالصة كافٍ بحدّ ذاته لتأكيد هذه الحدود، ولسنا بحاجة لخط ازرق بحري ولسنا مضطرين لتفويض الأمم المتحدة لرسمه لأنّ تجربتنا معها ليست مشجعة.

أما عن مخاطر الإرهاب على الحدود الشرقية والشمالية، فإننا نرى أنّ الخطر الأول المتمثل بخطط «داعش» للوصول إلى البحر المتوسط عند طرابلس وإقامة الإمارة الشمالية التي تربط بادية سورية بالبحر، فإن هذا الخطر تراجع بشكل كبير مع نجاح سورية في استعادة تدمر وإجبار «داعش» على التحرك شرقاً لملاحقته في وقت قريب لطرده مما تبقى من المنطقة الشرقية السورية، لكن هذا الخطر أُبدل بخطر آخر على لبنان وهو خطر يتمثل بحاجة «داعش» لمنطقة أو ملاذٍ آمن تُضفى عليه حصانة ما من أجل المحافظة عليه، وهنا يأتي الهجوم الإرهابي على موقع للجيش في حنيدر، حيث تعمل فيه ورشة لاستكمال بنية المراقبة وحراسة الحدود، ويبدو أنّ خلية إرهابية نائمة في عكار عملت بتوجيه من الجماعات الإرهابية في سورية لمنع الجيش من متابعة التجهيز الدفاعي ذاك أو لجسّ نبضه وجهوزيته في المنطقة.

لذلك نرى أنّ الخشية اليوم تتمثل في توسع «داعش» في محيط عرسال وجرودها اللبنانية ومنها إلى الشمال مطمئنة إلى أنّ أحداً لن يطاردها هناك، لأنّ المقاومة تحاذر الدخول إلى المنطقة لاعتبارات مذهبية، والجيش بحاجة للقرار السياسي للقيام بعمل هجومي تطهيري شامل، والكلّ يعلم أنّ مثل هذا القرار غير متيسّر في ظلّ الانقسام السياسي القائم واستمرار البعض في المراهنة على أوهام سقوط الدولة السورية.

وفي الخلاصة نرى في مقابل هذين الخطرين الحقوقي والأمني على الحدود اللبنانية وجوب الحذر والتيقظ، وأنّ المخاطر تفرض على مَن يرى نفسه معنياً بسيادة لبنان وحقه في أرضه، أن يرتقي إلى مستوى المسؤولية الوطنية بعيداً عن المصالح الضيّقة والشخصانية القاتلة، لأنّ الخسارة إنْ وقعت في هذا المجال فستكون خسارة نهائية غير قابلة للإصلاح والتعويض… فحذار التفريط بحقوق وطنية.

أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى