هل عرف اليهود التّوحيد كما يدّعون؟
وجدي المصري
التوحيد لغة هو الإيمان بالله وحده لا شريك له كما ورد في لسان العرب لإبن منظور الذي يتابع قائلاً: «والله الواحد الأحد، ذو الوحدانيّة والتوحّد، ومن صفاته الواحد الأحد، وقيل: الواحد هو الذي لا يتجزّأ ولا يثنّى ولا يقبل الإنقسام ولا نظير له ولا مثل ولا يجمع هذين الوصفين إلا الله عزّ وجل». أما بطرس البستاني فيقول في محيط المحيط: «وحّد الله تعالى آمن به تعالى وحده وقال إنه واحد أحد أو قال لا إله إلا الله… والتوحيد اعتقاد وحدانيّته تعالى… وفي اصطلاح أهل الحقيقة تجريد الذات الإلهية عن كلّ ما يتصوّر في الأفهام ويُتخيّل في الأوهام والأذهان. والموحِّد مَن يعتقد وحدانية الله».
فكيف عرف الإنسان التوحيد، أيّ كيف استطاع أن يوحّد الآلهة المتعدّدة التي كان قد اخترعها في طفولته الفكرية؟ وأيّ شعب توصّل قبل غيره إلى فكرة الإله الواحد وسعى إلى تجاوز فكرة تعدّد الآلهة؟
يقول الدكتور بشار خليف في الصفحة 41 من كتابه نشوء فكرة الألوهة بأن «لا اعتقاد ولا تديّن في ثقافات ما قبل الزراعة، بمعنى آخر، لا تديّن قبل الألف العاشر قبل الميلاد». أما عن معنى التديّن فيقول بأنه «وعي إنساني في لحظة ما، إلى ما بُعد ما وراء إنسانيّ أو ما وراء الواقع، والذي ينتمي إلى عالم مُتخيّل، أساسه الظواهر الطبيعيّة التي مركزها السماء في العُلى». ثم يؤكّد أنّ «التديّن أو الاعتقاد بمفهومه السماوي لم يكن قد نشأ بعد»، وهو يتحدث هنا عن تطوّر فكرة الاعتقاد بالآلهة خلال الألفية الخامسة قبل الميلاد، وهو يُرجع ذلك إلى أنّ دماغ الإنسان كان لما يزل في حالة النمو. ويبدو أنّ معظم الدّارسين يعيدون بدء ظهور فكرة الألوهة مع ترسيخ المجتمعات الزراعيّة، ويستشهد بقول للباحث ميرسيا إلياد الذي يقول في كتابه تاريخ المعتقدات الدينيّة بأنّه «مع تكرّس المجتمعات الزراعيّة في عوالم الزراعة، صار حضور السماء قويّاً متجلّياً بالمظاهر الطبيعيّة».
فما هي السماء، وكيف وُلد الترابط ما بينها وبين الآلهة أولاً، ومن ثمّ بينها وبين الله بعد التوصّل إلى التّوحيد؟
سفر التكوين هو أوّل سفر من أسفار العهد القديم، وفي الإصحاح الأول منه يقول الكاتب: «في البدء خلق الله السموات والأرض»، وهذا يعني أنّ هناك أكثر من سماء، أما في القرآن الكريم فنقرأ من سورة البقرة: «… الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناءً» 21 ، ومن الآية رقم 106 نقرأ: «ألم تعلم أنّ الله له ملك السموات والأرض»، وهذا يعني أنّ السماء هي تعبير مجازي للفضاء الذي تسبح فيه الكواكب، فمرّة كانت تُعتبر سماءً واحدة وهي الفضاء الذي يعلو رؤوسنا وفيه نرى من الكواكب أهمّها أيّ الشمس والقمر، ومرّة كانت تأتي بالجمع أيّ سموات وما ذلك برأيي إلا للدلالة على هذا الفضاء اللامتناهي الذي يحوي مليارات المجرّات وكلّ مجرّة تحوي مليارات الكواكب كما يقرّ العلم الحديث. أما من حيث اللغة فيقول إبن منظور في لسان العرب: السماء سقف كلّ شيء وكلّ بيت. والسموات السبع أطباق الأرضَين، وتجمع سماء وسموات. وقال الزجّاج: السماء في اللغة يقال لكلّ ما ارتفع وعلا قد سما ويسمو، وكلّ سقف فهو سماء، ومن هنا قيل للسحاب أيّ الفضاء السماء لأنّها عالية، والسماء كلّ ما علاك فأظلّك».
وانطلاقاً من هذا المعنى اللغوي نتساءل كيف أصبح هذا الفضاء مرتبطاً بالآلهة بداية؟ وكيف أصبح في ما بعد مكاناً لله وللجنّة؟ وهل الله حقاً موجود في مكانٍ واحد محدّد؟ وهل الجنة أيضاً مكان تتجمّع فيه أرواح الصّالحين من الناس؟
طفولة الإنسان الفكريّة والحضاريّة
وللإجابة على هذه الأسئلة لا بدّ من أن نعود إلى طفولة الإنسان الفكريّة والحضاريّة، أيّ إلى الزمن الذي بدأ فيه الإنسان يتساءل عن الظواهر الطبيعيّة الخارقة التي تحيط به. دُهش من كوكب الشمس، الشروق والمغيب، الدفء الصادر عن أشعّتها وكيف يتغيّر بين فترة وأخرى. واستوقفه القمر الذي كان يعطيه الضوء بعض آناء الليل بخفر، وكيف كان يختفي ويعود للظهور، وكيف كان يصغر ويكبر. نظر إلى المطر الذي تسكبه الغيوم وردّ فعل الأرض التي كانت بفضله تنبت مختلف أنواع المزروعات. أرعبته البروق والرعود فلجأ منها إلى المغاور الطبيعيّة، أذهلته العواصف التي كانت تقتلع الأشجار وتدحرج الصخور، ولقد وقف في البداية عاجزاً عن تفسير هذه الظواهر فنسبها إلى قوى خارقة فوق الطبيعة. وبما أنّه أيقن أنّ هذه الظواهر تؤثر أحياناً كثيرة بشكل إيجابي في حياته اليوميّة، من خلال مراقبته لهذه الظواهر وما تفعله بالطبيعة، وكون هذه الظواهر تأتي من العالي، بدأ عند حاجته إليها أو تخوّفه منها يرفع يديه إلى العلاء إمّا طلباً لحدوثها أو لإبعادها حسب الحاجة. ثم ما لبث أن بدأ مشواره الماورائي الذي قاده إلى أن ينسب لهذه القوى الطبيعيّة قدرة الخلق بدءاً بالأرض والأعالي، نسبة لوجوده على سطح الأرض، فأصبحت هذه القوى بذاتها آلهة يستعطفها حيناً ويتوسّل إليها أحياناً تبعاً لحاجته إلى ما يصدر عنها. وبهذا بدأ الإنسان يربط هذه المعطيات بعضها ببعض فتفتق تطوّره العقلي المتنامي إلى إطلاق عملية خياليّة شرح فيها كيفية خلق الأرض وما عليها. وبما أنه كان يلاحظ جيلاً بعد جيل أنّ هذه الظواهر مستمرّة لا تنقطع، وبأنه يصل إلى مرحلة الموت ومغادرة هذه الحياة، اعتبر أنّ هذه الظواهر أبدية خالدة أما هو ففانٍ. وتلحظ الأساطير القديمة عمليّة بحث الإنسان المتواصل للحصول على الخلود. وبعد مزيدٍ من النضج الفكري الناتج عن عملية نمو حجم عقل الإنسان توصل إلى أن يطلق على هذه الظواهر لقب آلهة، وبعدها انتقل إلى أن يخلق إلهاً لبعض مناحي حياته الخاصة، فاخترع إلهاً للجمال وآخر للحب والخمر بعدما كان قد أوجد آلهة للمطر والخصب والحصاد.
يقول الدكتور بشار خليف في الصفحة 83 من كتابه نشوء فكرة الألوهة : أولاً جعل آلهته في السماء ثم جعل على الآلهة إلهاً واحداً قادراً يملك «الكلمة» الخالقة وتحت كلّ ذلك تعمل الآلهة عمل الملائكة، كما ستتبدّى في ما بعد في مساق الأديان اللاحقة». ويصل إلى القول بأنّ «كلّ منتج للعقل البشري كان بتصوّرهم من صنع وابتكار القدرة الخالقة العلويّة وهذا ما يمكن تلمّسه في قوانينهم الاجتماعية، من قوانين لبت عشتار إلى أورنمو إلى قوانين حمورابي، فكلها قدّمتها الآلهة للإنسان رغم أنها قوانين وضعية، وضعها مفكرو وقانونيّو العالم القديم آنذاك». وبالرغم من آلاف السنين التي تفصل بيننا وبين إرهاصات الفكر الإنساني الأوّل، فإننا نجد أنّ إنسان اليوم لا يختلف بتفكيره عن الإنسان القديم إذ لا يزال ينسب كلّ شيء يصادفه في حياته إلى الله، ومن هنا كانت فكرة التنزيل التي تنسب إلى الله الكلام الذي جاء على لسان الأنبياء والتي تحرم الإنسان المبدع الخلاق من هاتين الصفتين كما أشار إلى ذلك الشاعر محمد يوسف حمود في إحدى مقالاته.
هذه الأفكار التي نتجت عن تطوّر الفكر الإنساني بقيت متداولة من جيلٍ إلى جيل لدى الشعوب القديمة حتى تسنّى للإنسان اختراع وسيلة تمكّنه من المحافظة على أفكاره بشكل أفضل، فاخترع الكتابة وكان ذلك على يد السومريّين خلال الألفيّة الرابعة. وبعد ذلك بدأ يدوّن كلّ ما اختزنه عقله من تجارب أسلافه حيث أصبح للكتابة دور «في توثيق مجمل الحياة السابقة، فهي مكّنت من استيعاب التراث الشفوي والحكايا والأساطير، والمعتقدات الشعبية، وبذا أمكن عبر نظام الكتابة صون تراث المشرق الشفوي» كما يقول الدكتور بشار خليف.
«العقل قبل النقل»
تقول الأساطير التوراتيّة بأنّ أسفار التوراة بلّغها الله إله الإسرائيليّين يهوه لموسى الذي نقلها إلى شعبه. أما إذا عدنا إلى هذه الأسفار، وأولها سفر التكوين الذي ينقل إلينا كيف خلق الله الكون والكائنات، لقرأنا العجب، هذا إذا ما تخطينا التفكير الديني النمطي الذي يسلّم بكلّ كلمة جاءت في الكتب الدينيّة دون أن يكون لعقله دور في قبول ما يتوافق منها مع المنطق ورفض كلّ المبالغات غير المنطقيّة. يقول الفيلسوف ابن رشد بأنّ العقل يجب أن يُقدَّم على النقل، وهو يعني بالنقل كلّ ما وصلنا مكتوباً من الأولين. إنّ القول بأنّ ما جاء في الكتب الدينية لما بات يُعرف مجازاً بالديانات السماوية، هو كلام إلهي لا يجوز أن يتعرّض للدراسة والتقويم والنقد، هو جزء من مؤامرة اليهود على العقل الإنساني لمنعه من فضح تزويرهم للحقائق والتاريخ، ولدفعه إلى القبول بكلّ كلمة وردت في أسفارهم وصولاً إلى الخضوع لغاياتهم، خاصة تلك التي تتعلق باحتلالهم فلسطين، وهي جزء من الأرض الموعودة التي قال لهم إلههم بأنه سيعطيهم إيّاها بعد أن يطرد من أمامهم كلّ الشعوب التي كانت تقطن فيها، فأيّ إله يسوّغ لنفسه القيام بهذا العمل الإجرامي غير إله قبليّ خاص أعلن عن نفسه مرّات عديدة بأنه إله «بني إسرائيل» فقط وليس إله الكون. نقرأ من سفر التكوين الإصحاح السابع عشر: «ولما كان أبرام إبراهيم لاحقاً ابن تسع وتسعين سنة ظهر الربّ لأبرام وقال له أنا الله القدير… وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهداً أبدياً، لأكون إلهأً لك ولنسلك من بعدك. وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كلّ أرض كنعان ملكاً أبدياً. وأكون إلههم». هذا الإله الذي اختار إنساناً واحداً ليكون له إلهاً ولمَن يأتي بعده من ذرّيته ليس إذن هو الله الواحد الأحد الذي خلق الكون وجميع الكائنات، وإبراهيم هذا والذي اعتبره اليهود جدّهم، ليس إبراهيم الذي جاء ذكره في القرآن الكريم الذي يقول عنه في الآية 66 من سورة آل عمران: «ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين». وجاء ذكره أيضاً في الآيتَين 126-127 من سورة البقرة: «وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربّنا تقبّل منّا إنك أنت السميع العليم. ربّنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريّتنا أمّة مسلمة لك»، حتى يقول في الآية 130: «إذ قال له ربّه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيّ إنّ الله اصطفى لكم الدين فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون». فكيف نفسّر هذا التناقض بين الكتابَين «السماويّين» والذي يطيح بكلّ معتقدات اليهود بدءاً من انتسابهم وحدهم إلى إبراهيم، مروراً بإعلان الربّ إلهاً خاصاً بهم، وصولاً إلى وعد هذا الإله لهم بإعطائهم أرض كنعان ملكاً أبدياً؟ فإذا كان هذا الكلام كلام الله، أليسَ من واجب المؤمنين العمل على تحقيقه؟ ألم تنطلق الصهيونيّة العالميّة من هذا الكلام لتقول لدول العالم بأنّ كلّ مَن يقاوم إرادة اليهود بالسيطرة على فلسطين فإنّما بذلك يقاوم مشيئة الله؟ وإذا كان جميع المؤمنين في العالم، بمَن فيهم المؤمنون في بلادنا على مختلف طوائفهم ومذاهبهم، مقتنعين بأنّ هذا الكلام هو بالفعل كلام الله، فلماذا إذن لم نسلّم لليهود بهذا الحق الإلهي؟ ولماذا يجب أن نستمرّ بمحاربتهم مفسحين لهم المجال بتدمير بلادنا لتحقيق هذا الوعد الإلهي؟ أما كان أجدر بنا أن نقوم نحن بالمبادرة فنهجر بلادنا ونرسل بطلبهم من شتات العالم لكي يأتوا للإقامة في أرض كنعنان، بلادنا التاريخية قبل أن يكون هناك يهودي واحد في العالم، وقبل إبراهيم وكلّ ذريّته؟ أليسَ على العقل أن يتدخّل هنا، ونحن في بداية الألفية الثالثة بعد الميلاد، ليقول «كفى استخفافاً بي»، إذ أنّ كل ما هو وارد في هذه الكتب إنما هو من نتاجي لأنّني فيض من العقل الكلي الله الذي منحني جزءاً من قدراته لأكون انعكاساً له بما هو محبة صافية، وتسامح لا محدود، وعدل لامتناهٍ؟
في بداية سفر التكوين قصة ساذجة أُدخِلت إلى عقولنا منذ صغرنا، وهي قصّة آدم وحواء، أصل البشرية جمعاء، اللّذين خلقهما الله في اليوم السادس، علماً أنّ الكاتب في القصة الأولى لم يأتِ على ذكر آدم وحواء بل قال: «فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه ذكراً وأنثى خلقهم وباركهم الله…» تكوين 27:1، فإذا كانا إثنين فلماذا قال خلقهم وباركهم مستعملاً صيغة الجمع؟ وإذا كان الله في كلّ يوم قد خلق شيئاً بدءاً بالسموات والأرض، ثم المياه على سطح الأرض، ثم العشب والشّجر المثمر، ثم الكواكب في الفضاء، ثم الزحافات والطيور، فإذا ما خلق الإنسان في اليوم السادس شعر أنّ عمله قد اكتمل: «فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل. وبارك الله اليوم السابع وقدّسه» تكوين 2:2-3، ألا يتناقض ذلك مع قدرة الله الكلية التي تحدّث عنها القرآن الكريم قائلاً في الآية 116 من سورة البقرة: «بديع السموات والأرض وإذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون».
كاتب التوراة الذي تأثر بأفكار الشعوب التي سبقته، والذي اطّلع على تفاصيلها بعد أن سبى نبوخذ نصّر بني إسرائيل إلى بابل بعد انتصاره عليهم عام 587 ق.م.، من خلال قراءته لأساطير السومريّين والكلدانيّين والبابليّين المحفوظة في مكتبات بابل، سطا على هذا التراث فغيّر وبدّل قليلاً ونسبه إلى عبقريّته وإبداعه. وبما أنّ هذا التراث قد طمر في باطن الأرض لمئات السنين، إما بفعل العوامل الطبيعية التي دمّرت الحواضر القديمة، وإما بفعل الحروب التي ساهمت في التدمير، فكان لا بدّ من انتظار القرن التاسع عشر حيث بدأ التنقيب في سورية، وتحديداً في المدن التي ورد ذكرها في التوراة كمحاولة من العلماء وتحديداً اليهود منهم أو المدفوعين من اليهود، لتثبيت ما جاء في التوراة. فذهل هؤلاء العلماء، وخاصّة قلة منهم من المتجرّدين عن الأهواء والغايات السياسيّة، عندما اكتشفوا الرُقم التي كُتِبت عليها الأساطير القديمة، والتي سبقت التوراة بما لا يقلّ عن ألفيّتين، واستطاعوا فكّ رموزها فوجدوا بأنّها تحتوي على جميع القصص الأساسيّة الواردة في سفر التكوين، ومنها قصة آدم وحواء، وخلق الإنسان من طين، وقصة طوفان نوح وغيرها.
وبعد مقارنتها بقصص التوراة توصّلوا إلى استنتاج أنّ كتبة التوراة نقلوا هذه القصص بتصرّف وتميّزوا عمّن سبقهم بأن وصفوها بالقدسيّة والألوهيّة لكي يحفظوها من الضياع لأنّهم عرفوا حق المعرفة أهميّة التفكير الدّيني ومدى سيطرته على عقول الناس. أما أسوأ ما اقترفوه فكان ادّعاؤهم أنّهم أصحاب الديانة التوحيديّة الأولى، وأنّ كلّ الديانات، وخاصة المسيحيّة، تجد جذورها في ديانتهم. أما بعدما كشف الآثاريّون النقاب عن نتاج الفكر الإنساني المتقدّم عمّن عُرف تاريخياً باسم الإسرائيليّين أو العبرانيّين أو اليهود، فلم يعد في إمكانهم الاستمرار بالكذب إلا على البسطاء من المؤمنين الذين لا يكلّفون أنفسهم بالقراءة لكي يعرفوا الحقائق كما هي.
يقول خزعل الماجدي في كتابه الدّين السومري : «وكان الدّين السومري بمثابة الدّين الأول للإنسان من حيث امتلاكه أنظمة لاهوتيّة وميثولوجيّة وشعائريّة متكاملة ومنسجمة في ما بينها»، وصولاً إلى قوله: «كانت النزعة التوحيديّة كامنة في الدّين السومري في صيغة الإله آن إله السماء فهو إله عالمي مطلق عندهم»، ويخطئ مَن يعتقد بأنّ كلّ الشعوب القديمة كانت وثنية، ومن الخطأ القول أيضاً بأنّ الوثنيّين كانوا يعبدون الأصنام لذاتها، بل هم كانوا يعتبرونها رمزاً للقوى الطبيعيّة الخارقة كما سبق ومرّ معنا.
رحلة الإنسان الميتافيزيقيّة
هي رحلة قديمة بدأت كما ذكرنا مع الحضارات الموغلة في القدم، وبدأت تتبلور بعد اختراع اللغة وبدء الإنسان عصر الكتابة حيث سنحت له الفرصة بأن يدوّن كلّ ما كان يعتمل في عقله وفي قلبه. يقول خزعل الماجدي في الكتاب الذي أشرنا إليه: «وهنا لا بدّ من الملاحظة أنّ اندماج فكرة الألوهيّة بالعلو والسماء في الذهن القديم، حيث كانت إشارة الألوهة تعني العلو والسماء كذلك، هذا الاندماج ذو دلالة هامة على العلاقة المرهفة التي تربط الإنسان بالوجود الكوني البعيد، هذه العلاقة التي تعبّر عن ذاتها بالمشاعر اللاهوتيّة المشدودة دائماً نحو المطلق الكوني».
ويشير المؤلف إلى تأثّر كتبة التوراة بالأساطير السومريّة خاصة لجهة قصة آدم وحواء، وخلق الإنسان من طين وحول حصول الطوفان. ويبدو أنّ هذه القصص الفولكلوريّة كان لها أثر أدبي على مجمل شعوب العالم القديم، وفي هذا المجال يقول الماجدي: «في أعماق النتاج الأسطوري لأيّ شعب حيّ نلمح فكرة الأدوار الكونيّة وهي تعبّر عن نفسها في أساطير الخلق ثم أساطير بناء الكون ثم أساطير نهاية وتدمير الكون ثم إعادة خلقه من جديد»، ولنا بأسطورة الطوفان أهمّ شاهد حيث بدأت هذه الأسطورة مع السومريّين، وانتقلت منهم إلى الكلدانيّين والبابليّين ومنهم انتقلت إلى العبرانيّين، كما وُجدت أساطير مشابهة لدى الشعوب الهنديّة والصينيّة وبعض من شعوب أفريقيا. وفي هذا المجال أيضاً نقرأ للدكتور نسيم جوزيف شلهوب في كتابه العهد القديم بين حقيقة مقدسة وأسطورة مسيّسة : «وهو أيّ العهد القديم = التوراة في معظم محطاته اقتباس واستلهام من سيَر وأساطير شعوب أحاطت بالشعب العبري، وفي بعض الأحيان حكمته، عبدت الأوثان، وغيرها. ومن أبرز هذه الاقتباسات رواية خلق العالم، وقصة الطوفان وسفينة نوح التي وردت في الأساطير الصينية والهندية والبابلية وغيرها التي غرقت في مجاهل التاريخ أو اكشتفت مؤخراً كملحمة جلجامش وملحمة أطرحيس التي عثر عليها في بابل ويرقى عهدها إلى 1600 ق.م. أيّ ألف سنة قبل تدوين التوراة وفي أبياتها الـ 1645 ترد روايتَيْ الخلق والطوفان وهما شبيهتان كثيراً بما ورد في الكتاب العهد القديم ، وجميعها سبقت الرواية العبرية، وفي متابعة باقي أحداث الكتاب نخرج بالكثير من الاقتباسات الأسطوريّة».
إذن، الآلهة عرفتها الشعوب القديمة قبل العبرانيّين بآلاف السنين، والله الواحد عرفته شعوب سورية الطبيعيّة أيضاً قبل العبرانيّين بآلاف السنين. والسومريّون عرفوا التوحيد مع الإله آن، والبابليّون عرفوا التوحيد مع الإله إيل، الذي اتّخذه إبراهيم إلهاً وبعده يعقوب أيضاً، قبل أن يولد موسى بما لا يقلّ عن 500 سنة. ففي الإصحاح الحادي عشر كلام سطحي عن تعدّد لغات البشر وتفسير خاص وخاطئ من قبَل كاتب التوراة لمعنى بابل، إذ اعتبر الكاتب أنّ الله نزل وبلبل ألسنة أهل المدينة: «لذلك دُعي إسمها بابل. لأنّ الرب هناك بلبل لسان كلّ الأرض» 9:11، أما المعنى الحقيقي لبابل فمرتبط بالإله إيل وهي تعني باب إيل ايّ باب الله.
يقول الأب الدكتور سهيل قاشا في كتابه بابل والتوراة : «بابل أو باب إيل، باب الإله، أو باب الآلهة، أو بيت الله، على عكس ما تفسّره التوراة». عندما خرج إبراهيم مع أبيه من أور الكلدانيّين قاصدين أرض كنعان: «ظهر الرب لإبرام وقال لنسلك أعطي هذه الأرض، فبنى هناك مذبحاً للربّ الذي ظهر له. ثم نقل من هناك إلى الجبل شرقي بيت إيل ونصب خيمته» 7:12. وهذا يعني أنّ عبادة إيل كانت قد عمّت سورية الطبيعية بأكملها، أيّ بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام أو أرض كنعان. وها هو ملاك الله يأتي يعقوب إسرائيل في الحلم ويقول له: «أنا إله بيت إيل». أما في الإصحاح الثالث والثلاثين فإنّ يعقوب يعلن بصراحة واضحة بأنّ إله إسرائيل هو إيل: «وأقام هناك مذبحاً ودعاه إيل إله إسرائيل». وقد وقع كاتب العهد القديم بالخطأ عندما قال على لسان يعقوب: «ودعا يعقوب إسم المكان الذي فيه تكلّم الله معه بيت إيل». فبيت إيل كانت موجودة قبل يعقوب وقبل جدّه إبراهيم. إلا إذا كان يعقوب سمّى مكاناً آخر بهذا الإسم وهذا يعني أيضاً أنّ الله بالنسبة ليعقوب كان إيل الإله الكنعاني.
لقد استعمل كاتب التوراة في بداية سفر التكوين كلمة الربّ للدلالة على الإله، ومع يعقوب أصبح إسمه إيل، إذ إنّ يعقوب كان قد ولد لإسحق في أرض كنعان الذي كان الشعب فيها، اي الكنعانيون، قد عرفوا التوحيد من خلال إيمانهم بإيل. ولكن ما أن أوغل كاتب التوراة في قصّته مشدّداً على بني إسرائيل كشعبٍ خاص، له إله خاص به، حتى غيّر الكاتب إسم هذا الله إلى يهوه: «ثم كلّم الله موسى وقال له أنا الربّ، وأنا ظهرت لإبراهيم وإسحق ويعقوب بأني الإله القادر على كلّ شيء. وأما بإسمي يهوه فلم أُعرف عندهم» خروج 6: 2-4. وكثر من الدّارسين اليوم يؤكدون أنّ يهوه هو أحد آلهة كنعان أيضاً، سطا عليه كاتب التوراة واعتبره إلهاً خاصاً للعبرانيّين وقوّل هذا الإله ما شاء من مخيّلته مستفيداً من تجارب الشعوب التي احتكّ بها والتي كانت قد اتخذت آلهة فرعية أوكلت إليها مهمّة الوقوف إلى جانبها خاصة في مواجهتها مع الأعداء. وبعد ذلك أصبح هذا الإله إلهاً خاصاً بالعبرانيّين، فنقرأ من سفر الخروج: «وقال الله أيضاً لموسى هكذا تقول لبني إسرائيل يهوه إله آبائكم إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب أرسلني إليكم… فإذا سمعوا لقولك تدخل أنت وشيوخ بني إسرائيل إلى ملك مصر وتقولون له الربّ إلى العبرانيّين التقانا» خروج 3: 15-18. وإذا ما محّضنا بهذا الكلام نجد هنا أنّ الربّ الذي أصبح يُدعى يهوه لم يعد إله الكون والناس أجمعين، بل قزّمه كاتب التوراة ليصبح إلهاً خاصاً ببني إسرائيل. وكلّ أنبياء إسرائيل الذين ورد ذكرهم في التوراة لم يتركوا لنا مجالاً للشك بأنهم استأثروا بهذا الإله الذي تحوّل لاحقاً إلى إله حرب قبلي يسير أمام شعبه لدحر أعدائه والقضاء عليهم ليسهّل لهم الاستيلاء على أرضهم ومدنهم. وبهذا يكون اليهود قد تخلّوا عن الإعتقاد بإله واحد لصالح الاعتقاد بآلهة مختلفة، إله واحد لهم، نعم، ولكن هذا الإله يتقاسم السلطة الكونية مع آلهة الشعوب الأخرى، فأين يكمن التوحيد انطلاقاً من هذا المفهوم؟ لقد وقعوا ليس فقط بالإزدواجيّة، بل تجاوزوها إلى تعدّدية الآلهة، وبذلك لا يمكن اعتبار اليهوديّة ديانة توحيديّة، وبالطبع هي ليست الدّيانة التوحيديّة الأولى. ومَن يقرأ التوراة بوعي عقلاني لا يمكن إلا أن يدرك هذه الحقيقة الواضحة، إذ كيف يمكن أن نفسّر الجملة التي تكرّرت دائماً في سفر الخروج وما بعده من أسفار، أعني جملة: «هكذا قال الرب إله إسرائيل» خروج 32: 27، وكلّم الربّ موسى قائلاً: «كلّم بني إسرائيل…» لاويين 7: 28. إنّ الشريعة التي أعطاها يهوه لموسى أكّد له في كلّ جملة أنها فقط لبني إسرائيل، حتى الوصايا العشر التي أخذها الكاتب من شريعة حمورابي وجعل إلهه يلقّنها لموسى على أنها الشريعة الإنسانيّة الأولى، نفهم من تفاصيلها أنها مخصّصة لكي يتعامل بها اليهود في ما بينهم لا أن يعاملوا بموجبها الآخرين: «لا تسرقوا ولا تكذبوا ولا تغدروا أحدكم بصاحبه» لاويين 19: 11، ولم يقل لا تغدروا بأحد، «بالعدل تحكم لقريبك» لاويين 19: 15، ولم يقل بالعدل تحكم بين الناس، «لا تقتل. لا تزنِ. لا تسرق. لا تشهد على قريبك شهادة زور. لا تشته بيت قريبك. لا تشته امرأة قريبك…» كلّ التركيز كان على القريب فهي أحكام وضعية خاصة بشعب إسرائيل وليست دعوة إنسانيّة كونيّة. كان علينا أن ننتظر يسوع لكي يعمّم هذه الوصايا لتصبح شموليّة. وما يؤكّد قولنا هذا هو، إلى جانب ورود كلمة قريبك فقط في بعضها، هو طلب هذا الإله من شعبه في أمكنة كثيرة أخرى أن يقتل، ويسرق، ويكذب، ويدمّر غير آبهٍ بهذه الوصايا: «فالآن اقتلوا كلّ ذكر من الأطفال…» عدد 31: 17، «متى أتى بك الربّ إلهك إلى الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها وطرد شعوباً كثيرة من أمامك… وضربتهم فإنّك تُحرّمهم أي تقتلهم جميعاً » تثنية 7: 1-2، وهذه الآية تحمل الطلب بالقتل وبسرقة أرض الآخرين في آن. «وفعل بنو إسرائيل بحسب قول موسى. طلبوا من المصريين أمتعة فضّة وأمتعة ذهب وثياباً. وأعطى الربّ نعمة للشعب في عيون المصريين حتى أعاروهم. فسلبوا المصريين» خروج 12: 24. إضافة إلى ذلك فبنو إسرائيل لم يتقيّدوا ابداً بهذه التعاليم الخاصة، فقتلوا بعضهم البعض وزنوا نساء بعض، ولنا بداود وأبنائه خير مثال، وقبله بنات لوط مع أبيهم. فكتاب العهد القديم هذا الذي ادّعى اليهود أنه يحتوي على الديانة التوحيديّة السماويّة الأولى والتي نهلت منها جميع الديانات، لا يمكن أن نقرأ فيه كلاماً موجّهاً لعموم الناس كما فعل يسوع ومحمد، بل كلاماً مخصّصاً لبني إسرائيل، وهو لا يحتوي على عِبرة أخلاقيّة واحدة يمكن أن نعتبرها توجيهاً للنفوس والعقول. يقول الأب إسطفان شربنتيه: «إنّ الكتاب المقدس، لا سيما العهد القديم، كتاب مُحيّر، نعلم، قبل أن نفتحه، أنّه الكتاب المقدّس عند اليهود والمسيحيين، ونتوقّع أن نجد فيه كلام الله غير ممزوج بشيء: أيّ نوعاً من كتاب التعليم الديني أو اللاهوت الأدبي، وعندما نفتحه نجد فيه قصصاً من ماضي شعب صغير، قصصاً كثيراً ما تكون لا فائدة لها، وروايات لا نستطيع أن نقرأها بصوتٍ مرتفع من دون أن نخجل، وحروباً واعتداءات لا مبرّر لها، وقصائد لا تحملنا إلى الصلاة وإن سمّيناها مزامير، وفضائح أخلاقيّة وسفاح قربى، وكثيراً ما هي مُبغضة للنساء».
«أبعد الناس عن التوحيد»
اليهود هم أبعد الناس عن التوحيد، بل هم مشركون، تقول الإعلاميّة الدكتورة ريما نجم بجّاني في رأي لها تصدّر كتاب الدكتور نسيم جوزيف شلهوب ما يلي: «والله واحد لا شريك له، وهو للبشرية جمعاء أب، أما في الفكر اليهودي وأدبيّاته الدينية، فالله له وحده أي لشعب إسرائيل ، وللأمم الأخرى آلهة وأصنام…» لقد عرف المصريّون القدماء التوحيد على يد أخناتون الذي تتحدث الدراسات أنه وصل إليه عن طريق والدته وجدّته السوريّتين. يقول ويل ديورانت في موسوعته قصة الحضارة : «ويرى أخناتون أنّ إلهه ربّ الأمم كلها، بل إنه في مديحه يذكر قبل مصر غيرها من البلاد التي يوليها الإله عنايته. ألا ما أعظم الفرق بين هذا وبين العهد القديم عهد آلهة القبائل». وكذلك فعل الصينيون فقد ورد في مجموعة الديانات في الماضي والحاضر ما مفاده أنّ أهل الصين القدماء آمنوا «بوجود حاكم أعلى واحد فوق كلّ الأرواح وفوق كلّ الناس… هو القوة العليا المسيطر على العالم»، وكذلك فعل الزرادشتيّون في بلاد فارس القديمة حيث يقول المرجع الديني الأعلى للزرادشتيّين في إيران السيّد رستم شهرزاي: «نحن نعتقد أنّ نبيّنا زرادشت كما ونحن نعتقد بوحدانيّة الله فلا نعبد غيره»، وزرادشت ظهر في منتصف القرن السابع قبل الميلاد، أيّ قبل تدوين التوراة بمئتي سنة. من هنا نرى أنّ معظم الشعوب القديمة عرفت التوحيد بشكل أو بآخر، وأطلقت على الله أسماء مختلفة حسب لغاتها، أما بنو إسرائيل فبالإضافة إلى أنّهم غيّروا إسم الربّ الذي ابتدأ به سفر التكوين ليصبح يهوه أحياناً وربّ الجنود أحياناً، فإنّ صفات هذا الإله لا تتلاءم مع صفات ربّ الكون الواحد الذي يؤمن به معظم البشر اليوم. فالله في المسيحية هو محبة، وتسامح، وغفران، وعدل، كذلك هو في المحمدية، أما في اليهوديّة فهو إله منتقم حتى أنه انتقم من موسى نفسه، لأنه قرّر بأنّ موسى قد خانه لأنه لم يقدّسه في وسط بني إسرائيل، تثنية22: 51 ، وهو إله يغيّر رأيه ويندم ويتعب، وأسوأ من كلّ هذا بأنّه إله متعطّش دائماً لرائحة الدم. جاء في سفر التثنية الإصحاح الرابع ما يلي: «لأنّ الربّ إلهك هو نار آكلة إله غيور» 4: 24، «فاعلم اليوم أنّ الربّ إلهك هو العابر أمامك ناراً آكلة» تثنية 9: 3. هذا الإله، المختلف معنىً ومضموناً مع الله الواحد الذي يعبده بقية المؤمنين، لا يزال حتى اليوم يُلهم قادة إسرائيل بقتل الأبرياء من شعبنا، ويعطيهم الحجّة الإلهيّة غير القابلة للنقاش باستمرار السيطرة على فلسطين ومحاولة التوسّع لإقامة إسرائيل الكبرى تحقيقاً للوعد الإلهي المزعوم.
هذه أمثلة قليلة مما تحفل به التوراة من دلائل تؤكد كلها أنّهم لم يعرفوا التوحيد الحقيقي، وبأنّ النبي الكريم محمداً بن عبدالله حاول إعادتهم إلى الصراط المستقيم فلم يفلح، فنزلت الآية رقم 81 من سورة المائدة: «لتجدنّ أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا…» فقدّم اليهود على المُشركين بالعداوة للدّين وللمؤمنين، والمؤمن الحقيقي لا يمكن أن يكون عدوّاً لغيره من المؤمنين. وأفضل ما نختم به هذه الدراسة ما قاله عالِم النفس اليهودي سيغموند فرويد حول هذه المسألة، فهو يقول في كتابه موسى والتوحيد : «ليس من المؤكد أنّ ديانته موسى كانت ديانة توحيديّة حقيقيّة». وهو يشير في مكانٍ آخر إلى «المؤثرات التوحيديّة السوريّة المصدر» التي فرضت نفسها على تطوّر الديانة المصريّة إلى أن وصلت إلى التوحيد مع أخناتون، إلى أن يقول: «إذا كان موسى حقاً وفعلاً مصرياً، وإذا كان قد أعطى اليهود ديانته ذاتها، فقد كانت ديانة أخناتون، ديانة آتون». وقد أبدى رأيه بالإله يهوه قائلاً: «فلا مراء البتة في أنّ الإله يهوه، الذي أهداه موسى المدياني شعباً جديداً، لم يكن كائناً أعلى، بل كان إلهاً محلياً محدوداً وشرساً، عنيفاً ودموياً».
أما آن الأوان أن يقرأ المؤمنون، خاصة المسيحيين منهم، كتاب التوراة بعقلٍ منفتح لا بفكر نمطي مغلق؟ إنّ الإستمرار بالتغاضي عن هذه الحقائق هو الذي يشجع إسرائيل على استمرارها باحتلال فلسطين وضربها عرض الحائط بكلّ القرارات الدولية. وقناعة المؤمنين المسيحيين والمحمّديين بقداسة كتاب التوراة ما هي إلا انجرار دائم وراء الخدعة اليهودية التي أضفت القداسة على كمٍّ هائل من الأساطير والقصص التي يجب أن توضع في خانتها الحقيقية، اي يجب أن تعتبر أدباً شعبياً ليس نتاج بني إسرائيل، بل هو نقل فاضح عن الأوّلين الذين وضعوه في دائرته الحقيقية. إله اليهود هو أحد الآلهة الحربيّة القبلية التي عرفتها الشعوب القديمة واستقوت بها على أعدائها، ومع اهتدائها إلى التوحيد تخلّت عنها. فهلّا مَن يقنع اليهود بالتخلّي عن هذا الإله القبلي وعبادة الله الواحد الأحد؟ وإن لم يقتنعوا، وبالطبع لن يقتنعوا، فهل على كلّ المؤمنين مجاراتهم إشراكهم، أم التمسّك بمضامين دياناتهم الحنيفة؟