سورية… من صندوق الذخيرة إلى صندوق الاقتراع

هلا علي

مما لا شك فيه انّ الحلّ السياسي الذي بدأت بوادره تلوح في الأفق، مؤخراً في سورية، طغى على أشكال واحتمالات الحلّ العسكري، الأمر الذي قدّم للسوريين حالة من الهدوء النسبي تعطشوا اليه في سنوات الحرب الخمس التي مرّت بهم.

عوامل عدة ساهمت في دفع عجلة الحلّ السياسي الى الأمام، أهمّها إعلان وقف الأعمال القتالية، واتفاق الهدنة التي بموجبها توقفت ضربات عسكرية، وذلك لتأمين تطبيق تامّ لبيان ميونيخ الصادر عن المجموعة الدولية لدعم سورية في 11 شباط 2016، وقرار مجلس الأمن رقم 2254، وإعلان فيينا لعام 2015 وبيان جنيف لعام 2012، يضاف الى ذلك انطلاق محادثات جنيف التي على الرغم من بعض التأخيرات والمراوحة في المكان وعقم بعض النقاشات، الا أنها تمثل سعياً واضحاً جلياً وجاداً الى إيجاد تسوية ما بات الجميع بحاجة اليها سواء من الداخل، معارضة وموالاة، أو من الخارج كأقطاب تتحكّم بالعملية وتديرها وتشرف عليها من بعيد ولها مصلحة بالتهدئة داخل سورية.

يضاف الى هذا كله انطلاق انتخابات مجلس الشعب السوري التي يجب أن تكون فرصة جديدة أمام جميع السوريين سواء المرشحين أو الناخبين ليدركوا أنّ الحوار بين جميع الأطراف هو الحلّ الوحيد وأنّ الإرادة الشعبية هي المنطلق والمستقرّ.

العملية الانتخابية لا تمثل اليوم ورقة تحمل اسم مرشح وتوضع في صندوق فحسب، بقدر ما تمثل الإرادة السورية لإنهاء حالة الاقتتال والحرب والصراع، والرغبة العارمة بالحلّ السياسي، بعد أن ذاقت سورية وطناً وشعباً ومواطنين ويلات الدمار والصراع والخراب.

السوريون بمختلف شرائحهم وانتماءاتهم وعقائدهم وآرائهم يجمعهم اليوم قاسم مشترك ألا وهو مصلحة سورية الغد، مع ما تنطوي عليه من إرادة البناء لا الهدم، وإعادة الإعمار لا إعادة إنتاج منظومات تقليدية متعفّنة أكل عليها الدهر وشرب.

لا يحتاج السوري اجترار الماضي ولا تفنيد أسباب النزاع، وانما تحويل تلك الأسباب الى مَواطِن قوة ووفاق وتعاون وإنتاج وإبداع.

سورية الغد تتطلب طاقة أبنائها للبناء، وهذا لا يكون متاحاً الا في مناخ سلمي ديمقراطي.

لا يخفى على أحد من تونس الى ليبيا الى مصر الى العراق وسورية فلبنان أنّ المشروع الذي أراد تدمير المفاهيم والأفكار التي جمعت يوماً العرب تحت لوائها كالعروبة والوحدة القومية والوحدة الوطنية والقضية الفلسطينية والمقاومة والإسلام وغيرها، هو ذاته المشروع الذي يسعى اليوم إلى الإمعان في التقسيم والشرذمة مكرّساً كلّ أشكال التفرقة ومجنّداً كلّ الوسائل لخدمة غرضه في تشويه كلّ فكرة قادرة على الوقوف في وجه أفكارهم عن «الشرق الأوسط الكبير» و»الشرق الأوسط الجديد» وأضاليل بوش وكوندوليزا رايس ومن حذا حذوهما.

السوريون اليوم يمثلون حالة استثنائية تختلف، على الرغم من التشابه، عن حالة كلّ من العراق وتونس ومصر وليبيا، سورية استطاعت أن تظلّ الشوكة في أعين من راهن على تدمير بناها الفوقية قبل التحتية.

استثنائية الحالة السورية تأتي هنا من الخصوصية الحضارية والثقافية للتركيبة المجتمعية للمجتمع السوري. وكما أثبتت المشاريع الغربية أنها ليست وليدة اللحظة وإنما نتيجة لمخططات عمرها عقود طويلة، كذلك فإنّ إرادة وحدة المجتمع السوري أمر لم ينشأ بين عشية وضحاها وإنما يعود في التاريخ الى ما يقارب عشرة عقود من الزمن. سورية التي كانت قبل مئة عام مقسّمة وفقاً للإرادة البريطانية الفرنسية المتجسّدة في اتفاقية سايكس ـ بيكو الى دويلات، قام أبناؤها من مختلف الأطياف والانتماءات بإعادة الوحدة الى أجزائها. تلك العملية لم تكن مجرد ثورة وتمرّد واحتجاجات وانما كانت تعبيراً عن الروح السورية الواحدة. سورية حضارة تحتفل اليوم بعيدها 6766 سنة، فإذا كانت الحضارة الاسلامية عمرها 1437 والمسيحية 2016 سنة، فإنّ الانتماء الى الحضارة السورية يفوق عمر الانتماءات الدينية والمذهبية والطائفية، وللأسبقية الزمانية أولوية حضارية أيضاً…

حالة السلام التي عاشها السوريون قبيل الأزمة لم تنسهم حقيقة أنّ قوى خارجية تتربّص على الدوام بهذه الأرض وتتحيّن الفرصة للانقضاض والتشفّي.

قد يقول قائل إنها ليست المرة الأولى التي تجري فيها انتخابات برلمانية في سورية، فلماذا كلّ هذه الخصوصية؟ الحقيقة في هذا التوقيت بالذات وبعد تلك الحرب الشعواء، أن إقبال السوريين على الانتخاب وعياً بالخصوصية الدقيقة التي تتمتع بها حضارة ينتمون اليها، هذا أولاً، وثانياً تَشَكُّل الإرادة السورية بتعزيز الحلّ السوري السوري السياسي ونفي كلّ الحلول الأخرى العسكرية والتدخلات الخارجية والاملاءات المرفوضة.

صندوق الاقتراع اليوم أزاح صناديق الذخيرة من الجغرافيا السورية، وبات يمثل الحلم بإعادة التوازن والتماسك للبنى الفوقية التي خضعت للتضليل والتشويش والتشويه، ذاك الحلم الذي يحققه أبناء سورية عبر حوار سوري سوري هادئ قادر على نفي أشكال الصراع الأخرى كافة التي تعوق وحدتهم.

ويبقى الأمل بإعادة الاعتبار الى المفاهيم والقيم التي خطط الغرب لزعزعتها وتدميرها ابتداء بالعروبة وانتهاء بالوطنية، وهذا ما يجب على السوريين التنبّه له، فسقوط مثال واحد لا يعني سقوط الفكرة وفشل التطبيق لا يعني خطأ النظرية.

أستاذة العلوم السياسية بجامعة تشرين ـ سورية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى