«تأوربٌ» خلّبيّ!
الجميع في الانتظار.
وبينما هي تهمّ بالخروج من الغرفة، استوقفتها صورة شابّةٍ تشبهها كثيراً في المرآة. خطت خطوتين إلى الوراء. وقفت أمام المرآة. وضعت يدها على وجهها كمن يتفحّص أثر عجلات عربة العمر، وقد مرّت سنون طويلة منذ أن رأت وجه صبيةٍ لم تبلغ الثامنة عشر بعد، يشعّ براءةً وأملاً.
تغيّرت كثيراً. سواد أيامٍ غطّاه بريقٌ مزيّف يحيط عينيها البنيتين. أحمر شفاهٍ زهري اللّون يعوّض شفتيها جمالاً كانت لتعطيها إياه ابتسامةٌ صادقة. شعرها الحريريّ الطويل الذي لطالما تغنّى به جميع من عرفها لم يتخطّ طوله مستوى ذقنها الرفيعة منذ ذاك الحين.
تدقّق النظر مجدّداً في وجه مَن تراها في المرآة علّها تجد فيها بعضاً من نفسها. جولةٌ مرّت خلالها بكافة تفاصيل صورتها، لترى أثر ما مرّت هي به، يحوّلها إلى أنثى كما لا تعرفها. وهناك في البعيد البعيد، رأت مقلتين تحدّقان في عينيها وفيهما عتب طفلةٍ بريئةٍ حزينةٍ تلوم قدراً، تلوم رجلاً.
رجلٌ عرفته صديقاً كتيراً ما يتردّد إلى منزلٍ عاشت فيه وعائلتها. في تلك الجلسات الطويلة التي كانت تجمعهم، أبهرها منطق شابٍ عاش طويلاً في بلاد الغرب والغربة. كان يتفاخر في حديثه عن احترام الحرّيات وضرورة التحرّر من قيود العقلية الشرقيّة التي تضع أغلالاً ثقيلةً حول عقولنا وتمنعنا من التحليق عالياً.
فكرة التحليق تلك راقت لصبيّة في مقتبل العمر ما كان ينقصها إلّا جناحان كي تطير شوقاً نحو الحياة وما تستدرجنا به من أحلامٍ نحو فخّ الغد ومصيدة المستقبل. لولا سمرة بشرته وخشونة ملامحه وسواد شعره، لظنّ من يستمع إلى حديثه عن الانفتاح وتطوير الذات وأهمية دعم مسيرة المرأة الكفاحية في مجتمعاتنا، أنّه أوروبيّ تعلّم اللغة العربية ولهجاتها حدّ الإتقان.
طُرق الباب مجدّداً، وقبل أن يفتح ليقطع عليها طريق العودة إلى ما مضى، قالت بصوتٍ فيه الكثير من القوة والحزم: «ها أنا قادمة»، ثم أخذت نَفَساً بعمق السنين التي سافرت نحوها خلال الدقائق الفائتة. احتاجت إلى هذا الكمّ الهائل من الأوكسجين كي تعود إلى واقعٍ تعيشه الآن وتتنفّس هواءه. حتّى ولو لم تنعش جسدها بجرعة الهواء تلك، كانت الأضواء التي ستسلّط نحوها ما إن تطأ قدماها المسرح لتكون كفيلةً يإيقاظها.
وبينما هي تسير بخطواتٍ بطيئة وكأنها تستمتع بسماع صوت كعب حذائها الرّفيع ينقر الأرض ويعلن قدومها منبّهاً كلّ من قد يعترض طريقها. حتّى وإن لم ينبّههم الصوت كان النظر ليقوم بالمهمّة، خصوصاً أنّ رجلين مشيا خلفها، ينافسان الحائط عرضاً وطولاً.
وها هي تتابع ما قد بدأته أمام مرآتها وتعود إلى ليلةٍ صيفيّة ما زالت تذكر تفاصيل ما دار فيها من حوار. بالطبع، لن تنسى السخرية الواضحة في صوته حين قال: «أظنّ أنّك ستقضين معظم وقتك في مكتبة الجامعة أو في غرفتك». لم تستطع أن تجيبه ربما لوقع الصدمة وهي قد قطعت شوطاً كبيراً في رحلة إعجابها به أو ربما لأنّها لا تريد أن تثير قلق والديها بنفيها ذاك التّوقع.
كحال الكثيرات اللّواتي يظلمهن هدوؤهن الأنثوي، خصوصاً إن رافقه ذكاءٌ حادّ وتفوّق علمي، ليطلق عليهن الجميع حُكماً مسبقاً بالضعف والإنغلاق. كانت خيبةً لآمالها أن تعرف أنّه لا يراها سوى فتاة لا حياة لها سوى بين صفحات الكتب، خصوصاً وهو من يلقي خطباً عن ضرورة اغتنام فرصة الحياة وخوض غمار التّجربة مهما كانت، ما يقلّص فرصها في لفت انتباهه. لكن، وعلى عكس توقعاتها، استطاع جمالها الملحوظ المغطّى بوشاح خجل زهريّ اللّون أن يلفت نظره وقلبه.
وقبل أت تصل إلى المسرح، وصلت بذاكرتها إلى اللقاء الأخير الذي جمعهما بعد أحاديث هاتفية طويلة ولقاءات متفرّقة وتطوّر ملحوظ في ما كان من الجليّ أنّه تمهيد لعلاقة ليست بالعابرة. يومئذ، أخبرته في سياق الحديث أنّها قابلت زميلاً جديداً دعاها إلى مرافقته إلى حفلٍ يقام في الجامعة. رغم أنّها كانت أكثر خجلاً من أن تفعل ذلك، إلّا أنّها وبعفوية فتاةٍ لم تتمرّس بعد في فنون الحبّ والعلاقات، أرادت أن تضع في صدره شيئاً من بذور الغيرة.
ما كانت تدري أن التربة تلك مستهلكة جدّاً وقد مرّ بها الكثير الكثير من الزّرع حتّى باتت لا تثق بأيّ نبتة وترى في كلّ جذر تلوثاً ومرضاً. تربةٌ لم تعد صالحة لبذرةٍ يافعةٍ لم تر الشّمس بعد، فالتّلوث أصاب ذرّات ترابها، وكثرة ما حضنته من نباتات استهلك كل ما فيها من معادن. وللأسف، يوم وضعت تلك الصغيرة في تلك التّربة قتلتها القسوة قبل أن تبصر نور الشمس.
اختفى لأيّام عدّة، ولولا إصرارها لما كان ليصارحها بذنبها الذي لم تقترفه. تهمتها كانت سوء السمعة والتصرّف البعيد عن الأخلاقيات التي كان يظن أنّها فيها. والمضحك أن الحاكم في هذه القضيّة ما زالت آثار الدماء جلية على مطرقةٍ حملتها يده الملطّخة قبل أن ينطق حكمه بالإعدام حبّاً حتّى الموت على صبيّةٍ دون السّن القانونية في التجارب العاطفية.
مرضه جعله يراها شاحبة اللون، وبشاعة ما عاشه جعله يتّهمها بالقبح. ومنذ ذاك الحين، باتت ترى في كل تحيةٍ أو ابتسامةٍ تبادل بها رجلاً، مشروع دليلٍ قد يدينها يوم يسقط القناع ويتحوّل من ظنّته شريكاً إلى الحاكم والجلّاد في مجتمع لفرط دناسته بات الطهر فيه بدعةً لا تُصدّق وإن صدقَت.
ها هي اليوم، كعادتها في كلّ مرّة، تنتقم منه وترديه قتيلاً على أرضه وفي ساحةٍ اعتاد خيله أن يصول ويجول فيها من دون شريك. تصل إلى المسرح، تُسلَّط نحوها الأضواء، تلاحقها عدسات الكاميرات، يعلو تصفيق الجمهور، تعتلي المنبر لتلقي خطبةً جديدةً في حفلٍ آخرٍ أقيم لتكريم امرأةٍ أثبتت «رجولتها» وجدارتها في العمل السياسي.
ظنّها فتاةً من ورقٍ تعيش وسط الكتب فأحرقها ببقايا سجائرٍ رمينها مَن مررن قبلها في صدره. ليتك، يا رجلاً يدّعي الانفتاح والتحضّر تتأكّد من نظافة يدك قبل أن تشير بأصابع الاتهام ملوّثاً سمعة إحداهن. ليتك، يا رجلاً أكل قلبه الصدأ تحرص على الأخذ بكل الأدلّة يوم تقرّر محاكمة إحداهن، فيا عزيزي أعمى الضمير، فتاة الليل تعود إلى بيتها نهاراً في حين أنّ الممرضة أو الطبيبة قد تتأخر حتى ما بعد منتصف الليل!
آلاء الترشيشي