تقرير
كتب سيمون دي غالبير: لا يحمل جديداً قول باراك أوباما إنّ الأوروبيين هم «ركاب مجاناً» يستفيدون من النظام العالمي الذي ترعاه الولايات المتحدة من غير مساهمة يعتد بها. فهو قول بالٍ أو متقادم في واشنطن. بالتالي، لم يخرج الرئيس الأميركي عن «قواعد اللعبة في واشنطن» حين شكا إلى جيفري غولدبيرغ تهرب الأوروبيين من تسديد «حصة عادلة» في الشؤون المعولمة. ودار كلام أوباما على مناوأته «الركاب المجانيين» أو من هم عالة على المجتمع الدولي، حين حمل حلفاءه الأوروبيين على قيادة حملة «الأطلسي» على ليبيا في 2011. وكان لانتقادات أوباما وقع المفاجأة على الأوروبيين في وقت تعاظمت الإنجازات المشتركة بين الحلفاء «الأطلسيين». فالرئيس الأميركي عوّل على الحلفاء في السياسة الخارجية أكثر من أسلافه. وسبق أن تذمر روبرت غيتس، وزير الدفاع الأميركي في ولاية أوباما الأولى وتذمرت إدارة سلفه جورج دبليو بوش، من شرخ بين دول الأطلسي، فمنها من يرغب في تحمل كلفة الالتزامات، وأخرى تستفيد من عضوية الحلف من غير رغبة في اقتسام عبء الأخطار والكلفة. وشأن غيتس، دعا ليون بانيتا وزير الدفاع الأميركي بين 2011 و2013 الأوروبيين إلى زيادة الإنفاق الدفاعي في قارتهم. وهذه انتقادات كانت في محلها. فموازنات الدفاع الأوروبية، وهي تشمل مساهمة في موازنة «الناتو» الدفاعية، تقلصت منذ نهاية الحرب الباردة. لكن انتقادات أوباما اليوم لا تحتسب التغيرات الأخيرة. فللمرة الأولى منذ سنوات، عدلت الدول الأوروبية عن تقليص النفقات الدفاعية، باستثناء عدد قليل منها. فالأحوال الأمنية تغيرت في القارة على وقع تجدد التنافس بين القوى الكبرى، وتعاظم خطر روسيا إلى الشرق وفراغ القوة الذي يؤجج الاضطراب والإرهاب والهجرة من الجنوب. وعلى رغم أن الدول الأوروبية لن ترفع كلها الإنفاق العسكري إلى 2 في المئة من ناتجها القومي، على نحو ما يطلب «الناتو»، بلغت دول أوروبية بارزة مثل بريطانيا وبولندا هذه النسبة، وتوشك فرنسا على بلوغها، وألمانيا ترفع موارد الدفاع المالية.
ويعتبر أوباما أن الحلفاء الأميركيين درجوا في «العقود الماضية» على حمل الولايات المتحدة على الإقدام، ثم التقاعس عن المساهمة. لكن إلقاء نظرة على العمليات العسكرية الأميركية منذ نهاية الحرب الباردة، يظهر أن الأوروبيين نادراً ما «دفعوا» أميركا إلى عمليات عسكرية، وغالباً ما شاركوا فيها على رغم أن مصالحهم لم تكن مهددة. وحملة أوباما على «الركاب مجاناً» هي أولوية مستهجنة في وقت تجبه الحلفاء على ضفتي الأطلسي تحديات مشتركة. الأوروبيون لم «يدفعوا» أميركا إلى حرب الخليج الأولى في العراق في 1991، بل دعموا القوات الأميركية ومدّوها بعشرات آلاف الجنود. وحين كانت مصالحهم المباشرة على المحك، غلب التردّد على موقفهم من حملة «أطلسية» تقودها أميركا في البلقان بين 1995 و1999. لكنهم شاركوا في الحملة الأطلسية العسكرية بعد استنفاد الحلول الدبلوماسية، ولعبوا دوراً بارزاً في إرساء الاستقرار في يوغوسلافيا السابقة. وعلى إثر هجمات الحادي عشر من أيلول 2001، أجمع القادة الأوروبيون على دعم التدخل الأميركي في أفغانستان، على رغم أن مصالحهم المباشرة في هذا البلد لا يعتد بها. وشارك آلاف من جنودهم في الائتلاف الدولي بقيادة أطلسية منذ 2001 من غير أن يؤيد قادتهم القرار الأميركي اجتياح أفغانستان. ولا يخفى أن الأوروبيين لم يكونوا وراء غزو أميركا العراق عام 2003، ولو شاركت بريطانيا وإسبانيا في الائتلاف الدولي، على خلاف دول مثل فرنسا وألمانيا.
والحال أن الأميركيين هم من دعا الأوروبيين إلى دعم حملات عسكرية، ولو انقلبت الآية رأساً على عقب في السنوات الأخيرة حين دعت فرنسا وبريطانيا ـ ومسؤولون في إدارة أوباما ـ أميركا إلى المشاركة في التدخل العسكري في ليبيا في 2011. خلافاً لما أكده أوباما، بادرت المقاتلات الفرنسية إلى حماية بنغازي قبل تدمير القوات الأميركية أسلحة الدفاع الجوي الليبية.
وخلص تقرير استقصائي نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» أخيراً إلى أن الإخفاق في إرساء الاستقرار في ليبيا إثر الحملة العسكرية كان وليد عدد من العوامل، أبرزها تردد الحكومة الليبية الجديدة في الترحيب بمساهمة قوى خارجية في إرساء الاستقرار في مرحلة ما بعد القذافي. وعلى رغم الإخفاقات في هذا البلد، ما نجم عن التدخل الرامي إلى تفادي كارثة إنسانية في ليبيا لا يزال أفضل من مآل الأمور نتيجة وقوف الغرب موقف المتفرج في سورية منذ 2011، أو مما نجم عن تدخله غير المسوّغ في العراق عام 2003. وقبل رفض البرلمان البريطاني المصادقة على عملية في سورية، دعت بريطانيا وفرنسا إلى رد عسكري على استخدام بشار الأسد الأسلحة الكيماوية ضد السوريين في آب 2013. بدا يومذاك أن الضربات الجوية قد تغيّر مسار حرب قد تزعزع استقرار أوروبا. وأيدت لندن وباريس الضربات، على إثر إعلان واشنطن أنها سترد على انتهاك سورية معايير حظر استخدام السلاح الكيماوي. والحملة المتواصلة على «داعش» لم يفرضها الأوروبيون على الولايات المتحدة.
ولا شك في أن عدد الدول الأوروبية قليل في هذه الحملة، وحري بها زيادة مساهمتها. وفي العام الماضي، قادت حاملة الطائرات الفرنسية العمليات على «داعش»، في وقت كانت حاملة الطائرات الأميركية في الصيانة وخارج الخدمة في الشرق الأوسط للمرة الأولى منذ نحو عقد.
والأزمة السورية سلطت الضوء على نازع شائك في الحلف الأطلسي: ففي بعض الأحوال، تتردد الدول الأوروبية في شن عمليات عسكرية من غير مساهمة أميركية، ولو كانت كفة مصالح أوروبا ترجح على المصالح الأميركية. لكن التدخل الفرنسي في مالي عام 2013، لم يحتج إلى قيادة أميركية ولا إلى دعم أميركي، شأن تدخل فرنسا في منطقة الساحل الأفريقي وفي جمهورية وسط أفريقيا.
ودور الأوروبيين الدبلوماسي يدحض وصفهم بـ«ركاب مجاناً». فالاتفاق النووي الإيراني المبرم في تموز 2015، هو ثمرة مساع دبلوماسية أميركية وأوروبية. وعلى رغم أن واشنطن هي مَن دعا الأوروبيين إلى تشديد طوق العقوبات التجارية على إيران، لم يكن لها فضل في نجاعة العقوبات. فالعلاقات الأميركية ـ الإيرانية التجارية مقطوعة منذ 1979. ولو لم يدعم الأوروبيون العقوبات لما قيّد لثمارها أن تنعقد. وهم من تكبد شطراً راجحاً من الخسائر الناجمة عنها. والعقوبات على روسيا والتي أدت إلى إبرام ألمانيا وفرنسا وقف نار هشاً في أوكرانيا في 2015، تحمّل آلامها الاقتصادية الأوروبيون لا الشركات الأميركية. واعتمدت إدارة إوباما على هؤلاء الحلفاء في جبه الأزمة الناجمة عن ضم روسيا شبه جزيرة القرم وتدخلها في شرق أوكرانيا.