رندة شعث في معرضها «لا يزول»… الصورة بوصفها نصاً بصرياً
محمد حنون
في معرضها الفوتوغرافي الجديد، الذي قارب الأربعين صورة تحت عنوان «لا يزول»، المقام في غاليري «جيبسوم» في مدينة القاهرة، تسعى المصوّرة الفلسطينية رندة شعث إلى تقديم صورها بوصفها نصوصاً بصرية، متكئة في ذلك على البناء الضوئي للمشهدية، وعلى تفاصيل الأدوات وظلالها، التي قد تبدو فيها كطبيعة صامتة في تمظهراتها الأولى، إلا أنها حتماً تبوح بالكثير في العمق.
تراوحت صور المعرض ما بين المشاهد التفصيلية لمجموعة متراصة من الحُلي المعلقة على الجدار، وأخرى لأدوات منزلية، كذلك المشاهد الواسعة لغرف مضاءة بأشعة الشمس التي تتسلل من النوافذ وتضيء المكان جزئياً. ما بين صورة نافذة بالكاد مفتوحة الستارة وصورة كرسي فارغ تعانقه الظلال، وغيرها من الصور ذات الثيمة نفسها، ثمة ما يراد قوله.
في حين أن الصور فنياً لم تتعدّ كونها قد التقطت بشكل بسيط، ولم يكن فيها شيء استثنائي من الناحية الفنية، إلا أن الفكرة وما أرادت المصورة قوله، شكلاً ركيزة للصور ما جعلها ذات دهشة وذات وقع استثنائي عند المتلقي. تحاول شعث من خلال عدستها أن تؤنسن الأشياء من حولها، على رغم عاديتها اليومية وجمودها المادي، باحثة داخل المشهد، وفي التفاصيل، عن روح المعنى ودلالاته الزمكانية والجمالية.
من اللافت في هذا المعرض، أن شعث قدّمت من خلال هذه الصور ترجمة عملية لجذور معنى كلمة فوتوغراف اللاتينية، أي الرسم بالضوء. كانت ثيمة المعرض قائمة على استغلال الإضاءة الطبيعية للمكان، إذ تحرّت رندة رؤية الاستثنائي في العادي، وتقديمه للمتلقي في سياق بصري متصل ومنصف للفكرة.
ما الذي «لا يزول»؟
كان في بروز الظلال كثيمة بصرية مُوحِدة للمعرض مدخلاً سيميائياً بصرياً للسرد الفوتوغرافي وبناء المفاهيم، حيث تجد بأن كل صورة مؤثَّثَة بالحكاية التي منحت عادية اللقطة عمقاً مؤثراً وتحويلها من صورة بصرية إلى نص بصري مقروء. باللجوء إلى التداعي فوتوغرافيا مع الأشياء والأدوات، تَشي شعث ـ في اللاوعي ربما ـ عن انتكاسة في علاقتها مع محيطها الحي/البشري بكل إرهاصاته السياسية والاجتماعية، أو عن موقف واع للاقتراب من أثر الناس وأشيائهم التي لا تتغير بعكس الناس أنفسهم، ما أدّى ذلك بالمقابل إلى تفاهم صاخب مع السكون والأشياء وعزلة المكان من ناحية، ومع قبول الغياب من ناحية أخرى.
إن أكثر ما يمكنه إثبات سعي الفوتوغرافية الفلسطينية المصرية رندة شعث بأن يتعامل المتلقي مع الصور في هذا المعرض كنصوص بصرية أكثر مما هي عمل فني، هو استخدامها الحرفي لنصّ أدبي مقتطع من رواية «فهرس» للروائي العراقي سنان أنطون. «ستكون الدقيقة فضاء ثلاثي الأبعاد. ستكون مكاناً أقتنص فيه الأشياء والأرواح وهي تسافر. التقاطع الذي تلتقي فيه قبل أن نختفي إلى الأبد، بلا وداع. البشر يودعون معارفهم وأحبتهم فقط.
أما الأشياء فهي تودع بعضها، قلّما نلمح ابتسامات الأشياء. نعم، الأشياء أيضاً لها وجوه. لكننا لا نراها، ومن يراها بعد أن يعاني ويدرب نفسه كي يفعل ذلك ومن يحاورها يصبح مجنونا في عرفكم».
في توطئة للولوج إلى حسّ المتلقي وتهيئته ذهنياً للتعامل مع ما يراه على جدران المعرض بشكل غير تقليدي، وضعت المصورة رندة نصّ أنطون على الجدار كأي صورة من صورها. يحتوي النصّ على الكثير من المفاتيح اللغوية لمضمون الصور، وكذلك الكثير من الإشارات التي أريدَ من خلالها المقاربة بين العلاقات المنفصلة بين السرد البصري وتحولاته وبين السرد الأدبي.
كان استخدام بعض الأساليب التقنية الفوتوغرافية في المعرض وتوظيفها في النتيجة النهائية ناجحاً، مثل استخدام تقنية «عمق الحقل» بالتركيز بؤرياً على جزء من المشهد، فيما بقية أجزاء الصورة مغبشة، كما نجده في صورة الصحيفة المحشوة في حديد درابزين السلم الحجري.
ما الذي «لا يزول»؟ هل هو أثر الناس بعد غيابهم؟ هل هو أثر الناس في الأشياء التي تركوها من خلفهم؟ أم هو أثرهم في أرواحنا وسلوكنا ورؤيتنا للأشياء من حولنا؟ أم تراه ببساطة شديدة ذلك الذي «لا يزول» هو الظل الممتد في كل صورة كجزء غامض ومسكوت عنه في النص/الحكاية، كما الحال في كل حكاياتنا الممتلئة بمناطق الضوء والظلال، ومناطق الوضوح والغباش؟