أيها المغفلون.. أنّى لكم أن تنحروا النور في بلاد النور!
هاني الحلبي
عبثاً يقدّمون «المنار» على مذابح تسوياتهم الملكية السلطانية.. هي حالياً وهج نورنا المقاوم أنّى لهم اغتيال النور المنار!
فالنور توطّن هنا، من بغداد والشام وبيروت والقدس وتدمر والبتراء وانطاكيا وامتدّ في العالم أبجدية وشرائع وقوانين وأنظمة وقادة عظاماً وأنبياء.. أنّى لوطن آخر وأمة أخرى أن يأتيا بهم.
من هنا، اغتنت فارس حضارتها فتمدّنت وحاورت وأضافت فأبدعت، ومن هنا استنارت الهند والصين والإغريق ومصر فقدّمت كل منها بصمتها.
ومن هنا، افتضحت سلطنة بني عثمان، بعد عهود مماليك وسلاجقة، بعجزها عن اقتباس وتمثل ما اعتصرته عقول المشارقة والمغاربة وأوروبا، فلم تبن سوى دولة إقطاع ووشاة وولاة أمر بمسوّغ خليفة متطاول على أهل قريش!
المسيحية نفسها من وجهة فلسفية، مرحلة شامية في تقويم اعوجاج الروح والحضارة بالعنف ليستحق الحق. فاغتالها العميان والطغاة. واحتاج الإسلام ليمتدّ ويتكرس رسالة هدي للعالمين لوهج دمشق وقدسية القدس. وهو منّا عاد إلينا. من الشام وللشام.
النور الشامي توهّج في الأندلس رشدية علّمت أوروبا بالمنطق والعلم وكشحت بالعقل عن سجونها ظلمة العقائد الهرمة ووحشية القوط وصنمية الطقوس، فارتعشت من مواتها بشرية عاقلة واستفاقت تنويراً يطلق الثورات ويستخلف ملوكاً وفلاسفة وشرائع ودولاً ضاق بها الجسد الأوروبي القديم فتمزّق.
تأسست التنويرية الجديدة على العقل. وعلى العقل فقط يمكن تأسيس أي تنويرية إنسانية في قيمها. قيم العدالة والأخوة والمساواة في كل مجتمع، مع تمايز مجتمع عن آخر وفق خصوصية تجربته الحضارية الاجتماعية وتطوره التاريخي.
السياسة حساب عقلي ولا تكون إلا كذلك. تقيّد رؤياها الفلسفية حساباتُ المصالح والزمان والمكان والاستعدادات والقوى الرديفة والمعادية. أهداف الآن وأهداف الغد. أسوأ السياسات تلك التي تُمليها قوى لقاء عروض فتأخذ الخطط إلى خنادقها ومناطقها التي عادة ما تكون ملأى بأفخاخ معدّة مسبقاً.
الخطط التي استهدفت سورية وما زالت لم تقم على حساب عقلي حقيقي، قامت على حساب سياسي صرف. تغافلت أو أغفلت من قواعدها الإنسان السوري المشرقي كقيمة عليا وما يمكنه تحقيقه، إن وعى هذه القيمة فيغيّر قواعد حياته وخططها وخطط أعدائه التي لم تتوقف طيلة التاريخ.
الخصوصية السورية فريدة. فلم تصب أمة بنكبات كما نكبت سورية عبر التاريخ بمعظم سياسييها، بمعظم طوائفها وبمعظم رجال أديانها وبمعظم قادتها العسكريين، وبمعظم ملوكها وأباطرتها، ولاحقاً بمعظم رؤسائها، إلا ندرة منهم.. حتى كاد النور أن يُنحر في بلاد النور..
ولتقريب الفكرة نقيس على صمت ما يسمى السلطة الفلسطينية وتلهفها لتلقف أي بادرة للقاء «مفاوض» إسرائيلي رغم الإسفاف والتسويف الذي حكم أي عملية «تفاوض» منذ أوسلو حتى اليوم وحتى ما بعده وقادت هذه العملية إلى التفريط المذل بأبسط شروط الفلسطيني وحقوقه، بموافقة ما يسميه معظم الفلسطينيين قائد الثورة وملهمها الراحل الرئيس ياسر عرفات. تكامل الصمت مع التفريط المستمر على طمس فلسطين وانقسام تركتها زواريب وحارات حتى تهالكت أي سلطة وأي مشروع فلسطيني جدي راهن، ويكاد الشلل يصيب كل مؤسسة فلسطينية كانت تتسم بقناع شرعية شكلية. الشرعية الفلسطينية تقررها واقعياً وحقيقة قبضات الشباب الفلسطيني إذ تحمل سكاكين وتشرط بها عدواً عند قارعة طريق. وغيرها مجرد ارتزاق سيُحاكم يوماً ما.
من هذه الزاوية لم تكن القاعدة السياسية التي اتبعتها قيادات وازنة سورية ولبنانية وعربية، وقفت بظلها لتتخلى عن فلسطين وَلِتوكِلَها مزرعة إقطاعية يتحكم بها رجال الثورة المقتتلين على ثوبها وكرسيها. تلك القاعدة «نقبل للفلسطينيين ما يقبلونه لأنفسهم». فقبل صقور الفلسطينيين أوسلو وفرضوه على كافتهم وها هم يرون أيّ ضعف ومهلكة أودى بهم إليهما. إذ لا تواجه الخطة الاستراتيجية النظامية اليهودية بالصهيونية إلا بخطة استراتيجية نظامية قومية أساسها انتظام القوى وتجنّد العقول وانسجام الفرديات وتلاقح العقائد وتوحيد الصفوف وتنسيق الكيانات والدول في قوى عظمى بسملتها إنسانها قيمة عليا ووطنها حق لا يمكن المساومة عليه وحق لأجيال شعبه بالاستمرار. وأيّ قرار ينال من هاتين القاعدتين باطل ولو كان تسويغهما على أساس ديني ام سياسي.
التهالك نفسه في لبنان. نراه في إقطاعيات عدّة، ومنها إعلامية وتلفزيونية تسوّق للفتنة والعمالة والخيانة وتتقن التبرّج بها، وتشكل عصا غليظة يهدّد بها مالكها خصومها والناس في أرزاقهم ليبني محطات إنترنت غير شرعي تتجسّس على اللبنانيين.
والأمرّ من ذلك، أمن متواطئ يستدرج الناس لأفخاخه، سياسيون شركاء ينتظرون حسبة الريوع غير الشرعية، قضاة ينتظرون يمرّرون احكاماً من توجيهات لا تليق بالقضاء، كما حصل مرات في تاريخ القضاء الذي بقي تحت مجهر التاريخ متهماً حتى يثبت العكس. في محاكم لبنان حُكم على أنطون سعاده بالإعدام بلا محاكمة وبلا دفاع. ولم يتلُ قط قاض فعل ندامة لا عن نفسه ولا عن سلكه. أليس معيباً أن تبقى سلطة القضاء تحت سوط السياسة ولا تستقلّ لتراقب وتقوّم وتثور متى يرتجّ حبل الأمن ومتى يعتور سلك السياسة ومتى يتهدد مصير الحق والإنسان؟
أليس معيباً أن تفلس صحف لبنان. وهي مَن قادت نفسها إلى هذا المصير لما انحنت رقاب قادتها لأمراء وملوك واصفرت أقلامهم باشتباه العبودية وتبرير الزنا الصحافي بين القتلة وتهمة الحرية والثورة. ما زالت تتصدّر للآن صفحاتها الأولى صور من تسمّيهم مسلحين ضدّ نظام، ولم تقل مرة إنهم إرهابيون ضدّ شعب؟ أليس معيباً ألا يستنقذ لبنان قيمته كوطن إنسان ونطاق ضمان للفكر الحر ويثور ضد من يهدر هذه الكرامة في بلد النور؟
أليس معيباً أن تتهمنا فنانات خليجيات إماراتية بالأمس، وأخرى كويتية اليوم وغيرهن ولا ترى تلك العاقات في اللبنانيين سوى باعة فلافل وشحاذين، ولا كذلك ممن يسمّونهم أمراء أن ليس لبنان عندهم سوى حانة متعة وعلبة ليل، لأن العقل اللبناني الرسمي لم يتناول السياحة إلا من تلك الزاوية مع الشبق الخليجي. أهمل الحشود السياحية الصينية والهندية والروسية والإيرانية والعراقية والأوروبية ولم يتوجه إليه بأي خطاب ترويجي حقيقي، لأنه رمى بيضه في سلال الخليج ومواسم اصطيافه المشبوهة؟
عهد جديد يبدأ، أيها اللبنانيون، أيها العرب!
هويات حقيقية تتكشّف وتفرض نفسها!
ولّى زمن الأوهام!
ناشر موقع حرمون haramoon.org/ar