الرفيق الشاعر أورخان ميسّر 2

بتاريخ 5/11/2014 كنا عمّمنا عن الرفيق الشاعر أورخان ميسّر، ثم بتاريخ 26/12/2014 نشرنا صورة غلاف مؤلفه «سريال».

مؤخراً وكنت أراجع الجزء الرابع من مجلد «من الجعبة»، فاطّلعتُ على ما أورده الأمين جبران جريج في الصفحة 573 عن الزيارة التي قام بها الى مناطق في الشمال السوري، وفيها عن الرفيق الشاعر أورخان ميسّر ننشرها بالنص الحرفي، لفائدة الإطلاع على الجهد الذي يقوم به رفقاؤنا الأوائل في سبيل انتشار الحزب ونموّه، في ظروف جدّ صعبة كانت تواجهه منذ التأسيس.

«اتفقنا مركزياً أن أقوم بزيارتين الى الداخل، الى حمص وحلب والى الساحل السوري، صافيتا، طرطوس، بانياس فاللاذقية، وذلك لإثبات وجود المركز من جهة ومن جهة أخرى للمحافظة على مستوى المناطق الحزبية المعنوية العالية، فقد تطلب القيادة الحزبية إليها القيام بعمل ما.

قمت بالزيارتين وبقي العميد اياس في المركز 1 . كان مركز الانطلاق اليهما من عكار بواسطة الرفيق توفيق شما التابع لمديرية الحاكور الذي كان يؤمّن السيارة ويرافقني حتى أعبر الحدود اللبنانية الشامية بسلام ثم يقفل راجعاً. كان السائق «الياس» من حلبا، السائق المفضل لديه، مؤتمن على السرّ مع انه ليس عضواً في الحزب.

«وصلت الى حمص الى منزل الرفيق سري الحلبي. تواً، اتصلت بهيئة المنفذية فوجدتها على أحسن حال وكان للزيارة الأثر الحسن ورتبت طريقة الاتصال. قضيت فيها ثلاثة أيام بينما وصل الرفيق فؤاد شلبي من مسؤولي حلب، لمرافقتي في زيارتي هذه.

«امتطينا سيارة ركاب كبيرة تعمل على خط حمص ـ حلب ولم نستخدم سيارة صغيرة زيادة في التمويه أو إذا شئت في التستر أو التخفي، حسب رأي الرفيق شلبي. ومن هنا بدأت متاعبنا. كانت السيارة مزدحمة بالركاب فما حصلنا إلا على مقعدين ولكن أين؟ كرسيّين صغيرين من القشّ، انرلتا في الفسحة التي بين المقعدين الأصيلين. قبلنا بهذا الوضع ولكني لم أحسب حساباً لعامل الوقت لعدة ساعات على هذين المقعدين «المريحين».

«على الطريق وأثناء الحديث مع الرفيق شلبي علمت أنّ المنفذ العام الرفيق أورخان ميسّر كان في قريته المملوكة «ددخين» يشرف على جني ثمار أشجار الزيتون. ولذلك كان من رأيه النزول عند مفرق «تفتناز» الذي يؤدّي الى طريق إدلب فجسر الشغور. ثم لا بدّ من مرور سيارة على هذه الطريق فتنقلنا الى حيث نقصد، لأنّ السيارات على هذا الخط لا تنقطع. وافقت على هذا الرأي ونزلنا عند هذا المفترق وشاء الله أن ينقطع سيل السيارات المعهود.

«داهمنا الليل ونحن نذرع هذا المفرق ذهاباً وإياباً حتى انقطع الأمل من مرور سيارة، فانكفأنا الى القرية «تفتناز» نأوي اليها. خطر ببالنا أن نبيت في مخفر الدرك مستغلين قرابة الرفيق شلبي لعمّه الكومندان، قائد درك محافظة حلب. أما أنا فقد أصبحت تاجر زيتون من الكورة أُدعى سليم موسى. فقصدنا المخفر فوجدناه في مبنى داخل سور عال، له باب مصفح بالحديد مقفل من الداخل، طرقناه كثيراً حتى كلّت أيدينا، طرقناه بقوة ولكن دون جدوى، مما دعانا أن نبدّل وجهة سيرنا فعدنا ويمّمنا وجهنا شطر مضافة القرية، مضافة الآغا، المفروض وجودها في قرية من هذا النوع.

«استهدينا الى المكان ودخلنا اليه فوجدناه عامراً بالسّمار. اتخذنا لنا مقعداً قرب المدخل. حدّثنا جيراننا وتمّ التعارف بيننا. فؤاد شلبي من حلب وسليم موسى من لبنان، تاجر زيت. سرى الإسمان بين الحضور حتى وصلا الى قائد الحلقة الذي كان في تلك الليلة ابن الآغا، لا الآغا نفسه. لدى وصول اسمينا اليه دعانا وقرّبنا منه. سألنا بعض الأسئلة عن الزيت في لبنان وعندما انتهت السهرة، دعانا ـ لياقة ـ إلى قضاء الليلة عنده فقبلنا دعوته ـ طبعاً ـ شاكرين له اريحيته.

«مدّ أحد الفلاحين فراشين على مصطبة المنزل ووضع فوقهما لحافين وانصرف، فارقنا الآغا الفتى متمنياً لنا ليلة سعيدة ولم يعرض علينا أيّ طعام فبتنا ليلتنا على الطوى مع انه أشبعنا عروبة وضيافة عربية بالكلام عن الأمجاد والتاريخ التليد ولم يقم بمزية واحدة من مزايا هذه العروبة المضيافة فأبقانا بلا أكل. ما كفانا الجوع، بل هاجمنا جيش من الزحافات وجد فينا غايته المرجوة، فعمل فينا لسعاً ومصاً مما جمّد النعاس في جفوننا. ما صدقنا متى انبلج الفجر حتى انهزمنا دون وداع الآغا وشكره. انهزمنا، حامدين الله على سلامتنا من المعركة غير المتكافئة التي نشبت في ذلك الليل الطويل!

«وصلنا الى المفترق فألفينا دكاناً مفتوحة أبوابه غدوة. اشترينا كعكاً وراحة حلقوم. يا للتجربة المرة! كان الكعك من عمر القرون الغابرة، فما استطاعت أسناننا إليه سبيلاً. انجبرنا أن نعمل على تحطيمه بوسائل غير وسائل الأسنان، اضطرنا اليها الجوع، والجوع كافر. حطمناها وألحقناها بالراحة التي ما كان فيها أية راحة بل كان قد أكل الدهر عليها وشرب أيضاً، فما كانت تنبلع».

« زاد الطين بلة، إقبال دورية مخفر الدرك فتطيّرتُ من هذه السلسلة المتماسكة الحلقات، من البق الساهر المتحفز، الى الآغا الذي أشبعنا أمجاداً ونيّمنا وبطوننا خاوية، الى هذا الدكان العتيق وكعك وراحة حلقوم من قبل الزمن التاريخي الجلي.

«اقترحتُ على الرفيق شلبي أن نتمشى ونبتعد رويداً رويداً تحفظاً واحتياطاً فنتجنّب الأسئلة والأجوبة. تبادلنا التحيات واتجهنا صوب إدلب. كان النهار مشمساً دافئاً. سرنا وسرنا وسرنا. كروم الزيتون حولنا وحوالينا. ارتسمت صورة الكورة الخضراء في مخيلتي.

«كنا نتحدث لنتسلى فنقطع المسافة شيئاً فشيئاً على أمل أن تلحق بنا سيارة. كنا نمشي ونحن نجرّ أقدامنا جراً، لا نوم، لا أكل. ما تحقق أملنا بالسيارة إلا عند ضواحي إدلب. أدركتنا شاحنة زفت. سائق السيارة أرمني. الرفيق شلبي يجيد الأرمنية. والدته أرمنية. تفاهما أرمنياً، جلسنا على المقعد بجانبه.

«أوصلتنا هذه الشاحنة الى «محمبل» حيث تقصد لتفرغ حمولتها. نزلنا وأخذنا قسطاً من الراحة في المخفر حيث أُكرمت وفادتنا وبخاصة عندما سرّب الرفيق شلبي الى الدرك أنّ عمه هو الكومندان. استفدنا من هذا التسريب فقدّموا لنا القهوة وأوقفوا لنا أول سيارة ركاب كانت متجهة الى جسر الشغور. شكرناهم وحمدناهم على قهوتهم وعلى تأمين السيارة. لم يقبض منا السائق أجرة الركوب لأنّ الدرك كانوا قد أوصوا بنا خيراً.

«وصلنا الى الجسر ومنها تمشينا الى «ددخين» لنفاجئ الرفيق أورخان ميسّر بحضورنا عند الأصيل وهو عائد من كروم الزيتون. بقيت في ضيافته ثلاثة أيام، كان يريدها أكثر، نستجمّ فيها من وعثاء السفر ومن عناء مغامرتنا التي سردناها على مسامعه بكلّ تفاصيلها ودقائقها. انّ أيام «ددخين» الثلاثة برفقة الرفيق الأديب أورخان ميسّر هي من أيام العمر التي لا تزول ولا تمحى ذكراها.

هوامش

1. تمكن العميدان الأمينان جبران جريج ومأمون اياس من الوصول الى القويطع ـ الكورة، بعد ان كانت السلطات الفرنسية تضيّق الخناق على القوميين الاجتماعيين وتعتقلهم.

استقرّ العميدان في بلدة بتعبورة ومنها راحا يقودان العمل الحزبي. نشرنا عن ذلك في النبذة بعنوان «من مراحل العمل الحزبي في فترة الحرب العالمية الثانية». سنعمد لاحقاً الى نشر نبذة خاصة عن انتقال مركز الحزب في أوائل أربعينات القرن الماضي، الى بتعبورة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى