هل يمكن أن تُحدِث وثائق بنما أيّ تغيير؟
استعرضت مجلة «فورين بوليسي» الأميركية في تقرير نشرته مؤخراً، تسريبات وثائق بنما الأخيرة التي كُشف عنها في وقت سابق، وتساءلت المجلة عمّا إذا كانت تلك التسريبات ستفسح المجال أمام أي تغيير في الاقتصاد العالمي.
وقالت المجلة إن ما كشفته تسريبات بنما الأخيرة ليس بجديد في ما يتعلق بوجود ما وصفته بـ«فساد مستشرٍ» في الدول الضعيفة أو في الدول التي تخضع لحكم الطغاة الأقوياء.
ويشير المقال إلى أن المرء لا يحتاج إلى الخوض كثيراً في كتب التاريخ لإيجاد أنشطة مماثلة مليارات وُجد أنها تدار في الخارج من قبل حسني مبارك، ومعمر القذافي، وزين العابدين بن علي. مؤكداً أنه، في الواقع، قد كان معروفاً ميل مبارك إلى الفساد، حتى أن البنك السويسري الذي أدار بعض ممتلكاته أقر بذلك للحكومة المصرية الجديدة، قبل أن يُطالَب بها بعد ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني.
غير أن تقرير المجلة أشار في الوقت ذاته إلى أن أهم ما يميز هذه التسريبات مدى ضخامتها، فالتسريبات بالتأكيد توفر معلومات ضخمة في شأن وثائق وشركات وهمية، وعملاء، وبلدان متضرّرة ومسؤولين حكوميين معنيين، أكثر مما كشفته تسريبات مماثلة أخرى بشكل علني.
وكانت تقارير صحافية عدّة قد أشارت إلى أن التسريبات هي أكبر عمليات تسريب للبيانات في العالم وهي أكبر من تلك التسريبات الدبلوماسية الصادرة عن «ويكيليكس» عام 2010، ومن وثائق الاستخبارات السرية التي قدّمها إدوارد سنودن إلى الصحافيين عام 2013. وقدّرت حجم الوثائق بـ11.5 مليون وثيقة، و2.6 تيرابايت من المعلومات المأخوذة عن قاعدة البيانات الداخلية لشركة «موساك فونسيكا» البانمية.
وذكرت «فورين بوليسي» أن حجم المعلومات يجعل تسريبات «ويكيليكس» تبدو وكأنها ساعة هواة. واستعرض تقرير المجلة بعضاً من الأسماء التي شملتها التسريبات، بما في ذلك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس الصيني شي جين بينغ، ورجل الأعمال والسياسي الباكستاني نواز شريف، وكذلك أقارب لسياسيين آخرين من بينهم والد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون وزوجته إلهام علييف.
ولم تقتصر الأسماء التي شملتها التسريبات ـ بحسب التقرير ـ على السياسيين وقادة الحكومات الحاليين أو السابقين، بل ضمّت كذلك أسماء 29 مليارديراً تم تصنيفهم من قبل على قائمة فوربس للأثرياء، وفق ما نقل التقرير عن موقع «Fusion». فيما لم يُفرج عن البيانات المتعلقة بشخصيات أميركية بعد.
السؤال الأهم الذي طرحته المجلة الأميركية كان متعلقاً بما إذا كانت تسريبات بنما، والتي لا تزال تكشف عن أوراقها شيئاً فشيئاً، ستكون حافزاً لإحداث تغييرات في الاقتصاد العالمي.
وقال التقرير: بينما أفسحت أحداث الحادي عشر من أيلول مجالاً من أجل القضاء على المصارف الوهمية، وخلقت الأزمة المالية العالمية عام 2008 الإرادة السياسية للشروع في خطة: تآكل القاعدة الضريبية وتحويل الأرباح لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية «BEPS»، فإنه من غير الواضح إذا ما كانت تسريبات بنما سوف ينظر إليها على أنها أزمة.
وتابع التقرير قائلاً إنه في حال نُظر إلى تلك التسريبات باعتبارها أزمة على هذا النحو، فإن ثمة تغييراً حقيقياً يمكن تحقيقه في ما يتعلق بالقضاء على الشركات الوهمية مجهولة المصدر. ومع ذلك، فإنه إذا ما اعتبرت الأنشطة غير المشروعة من النخبة السياسية أعمالاً تجارية فقط كالمعتاد، فمن المرجح أن يحدث قليل من الإصلاح.
ويتساءل التقرير حول ما إذا كان العالم يعاني من وطأة الفساد، خصوصاً بعد سيل الفضائح المصرفية والتسريبات التي لا نهاية لها، والتهرّب الضريبي على الشركات، والعمولات.
ويشير إلى أن هناك تساؤلين رئيسيين قد يساعدان في الجواب عن هذا السؤال. السؤال الأول: من هم العملاء الذين يقدّر عددهم بـ14.000 عميل ممن شملتهم التسريبات، وممّن لا ينتمون إلى الشخصيات السياسية، والاقتصادية، أو الفنية؟ وكم حجم الأموال التي لديهم، ولماذا يقومون بإخفاء هذه الثروات؟
فيما كان السؤال الثاني حول الكيفية التي ستكون عليها ردّ فعل الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي حيال ما وصفها التقرير بـ«الفضيحة»؟ وهل من الممكن أن تفضي هذه التسريبات إلى ظهور جديد لمحمد بوعزيزي آخر، في إشارة إلى الشاب التونسي الذي أحرق نفسه احتجاجاً على انتهاكات تعرض لها من قبل الشرطة التونسية وما تبع ذلك من اندلاع الثورة التونسية في كانون الثاني 2001؟
وقال التقرير إنه بينما خلفت التسريبات إسقاط حكومة إيسلندا، إلا أن الاحتجاجات القوية، العفوية التي ينظّمها المجتمع المدني في عدد من الدول، تظل المعضلة الأكبر.
ففي حال لم تظهر إرادة تطالب بالمزيد من الشفافية من الحكومات، فإن وثائق بنما ستكون مجرّد حدثٍ آخر في قائمة الفضائح التي تسبب ضجة لكنها لا تؤدي إلى أكثر من حفنة من الملاحقات القضائية.
المفارقة التي رصدها التقرير، أن اختبار تأثير هذا التسريب قد لا يتم فقط عبر ما انكشف حول قادة العالم المتورطين في فضيحة «موساك فونيسكا» التي تحتل عناوين الأخبار حالياً. بل سيتعلق الأمر أيضاً بالأثرياء نسبياً، الذين يستخدمون شركات غامضة لحماية ثرواتهم.
وقال التقرير: إن ثبت أن معظم أولئك الذين يقومون بإخفاء أموالهم في بلدان أخرى ليسوا من صفوة الأغنياء فقط، بل أيضاً صاحب المطعم المحلي الذي يخبئ أمواله من رجل الضرائب أو طبيب الأسنان في الحي، والذي يخبئ أمواله من زوجته السابقة، حينئذ فقط قد يحتاج القادة السياسيون إلى التحرّك.
ودحض التقرير الافتراض الشائع بأن فاحشي الثراء فقط يستطيعون استغلال فوائد العالم المظلم للتمويل الدولي، مشيراً إلى أنه بتوافر مستعرض إنترنت وبضعة مئات من الدولارات، يستطيع أي شخص الوصول إلى ما كان يوماً نادياً خاصاً بالصفوة.
وشدّد التقرير على أنه ليس من الصعب تصور الخطوات اللازمة لمعالجة المشكلة، لكن هذه الخطوات تحتاج إلى الإرادة السياسية لتنفيذها.
غير أن المعضلة الأهم ـ بحسب التقرير ـ ليست الملاذات الضريبية نفسها ولا الحسابات المصرفية الخارجية، بل الملكية السرّية المجهولة لشركات تسمح للمتهرّبين من الضرائب، ومقرضي الأموال ومسؤولي الحكومات الفاسدة بالتمتع بحصانة معينة، إذ يصبح من السهل إنشاء شركات مجهولة الصاحب، كما تتلاشى صعوبات عدّة أخرى.
ووفقاً للتقرير، فإن تعامل المجتمع المدني مع وثائق بنما على أنها أزمة وكانت ردود فعله تجاهها حازمة، فإن الإرادة السياسية لإحداث تغيير فعال ستنشأ بصورة آلية. سيتطلب هذا بالطبع تعاوناً عالمياً يمكن أن يبدأ مع اجتماع الدول الصناعية الثمان أو مجموعة الدول العشرين، ما يمهد الطريق لمزيد من التنسيق مع هيئات تشريعية أخرى.