الشرق في العقيدة الروسية…!
علي قاسم
رئيس تحرير «الثورة» ـ سورية
مرّ حديث الوزير سيرغي لافروف عن الصيغة الجديدة للعقيدة الروسية على وسائل الإعلام من دون ضجيج يوازي ما يستحقه، أو على الأقلّ لم يلامس عتبة ما ينطوي عليه الحديث، أو ما يعكسه القرار الروسي من إضافات نوعية، وربما مفصلية في سياق المشهد الدولي، وما يمليه من تحوّلات في العلاقات الدولية التي تتأهب لحقبة نظام عالمي، ستتحدّد ملامحه وفقاً لتلك الصيغة المحدّثة من العقيدة الروسية.
ما تعكسه تلك الحالة ليس جديداً في أسلوب التعاطي الإعلامي الغربي وبعض الإقليمي مع مفرزات هذه الحقبة، خصوصاً ما يطال الرؤية الروسية وما تفرضه من معطيات ربما لا تكتفي باستبدال المشهد وحسب، بل وترسم مشاهد سيكون من الصعب أن يتم التعامل مع القضايا الدولية والإقليمية من دون الأخذ بتداعياتها، وما تمليه من محددات وشروط واشتراطات تبدو مساراً طبيعياً لقواعد الاشتباك الجديدة التي ستفرضها.
لا نعتقد أن أحداً في العالم لا يعرف أنّ النظام الأحادي الذي تسيّدت فيه الولايات المتحدة الأميركية المشهد العالمي لما يزيد عن عقدين، قد أرخى بظلال قاتمة على العلاقات الدولية بحكم حالة الاستلاب التي فرض فيها الغرب معاييره ومقاييسه المغرقة في انتقاميتها، محاولاً تسطير نزعة ذات مخالب عدوانية ولائحة لا تنتهي من الأطماع القائمة في العقل الغربي، على أساس من الفوقية التي ألغت إلى حد بعيد الوجه الإنساني للقانون الدولي، وعملت على تجريده من نزعته الحضارية.
هذا كله ترك فراغات واسعة في هيكلة القرارات الدولية، وتدوير الزوايا فيها لتكون على مقاس تلك الأطماع، ناهيك عن حالة الاستلاب التي فرضت قسريتها المزرية على شعوب العالم، وتركتها تحت وطأة الإحساس بانكشاف أمنها الوطني والقومي أمام تلك الأطماع، وعرّضت سيادتها وقرارها المستقل لانتهاكات خطيرة تجاوزت ما بان وما يظهر منها، وحتى محاولات الممانعة لتلك الهيمنة اصطدمت على الأغلب بسيل من الاتهامات الكاذبة والمضللة، ودفع أصحابها ثمناً غالياً وضريبة أثقلت كاهلهم.
اليوم.. الصيغة الجديدة ليست في التدشين العملي لعالم متعدد الأقطاب فحسب، وما يعنيه ذلك من دفن لعالم القطب الواحد على أهمية ذلك ومحوريته، بل في السياق الذي تستعيده العقيدة الروسية من ركام ما مارسه الغرب من إيغال في التشفي من كل ما هو إنساني، حيث الشرق وروحه التي يصعب على السياسة، مهما اضطرت للدخول في مبازرات أو مساومات أن تتخلى عن وهجه وقيمه ومعناه، ولو كان مواربة أو ملامسته من بعيد.
عند هذه النقطة تبدو الحالة المفصلية والمنعطف التاريخي في سياق الشاهد المنتظر، لتكون العقيدة الروسية بصيغتها المحدّثة البوابة للخروج من نفق تبعية أرهقت شعوب العالم بحروب ونزاعات وهيمنة واستلاب، وفي صيغ لا بد أن تأخذ مجراها في الانقلاب على ما هو سائد، وعلى عرف سياسي بالغ في تقمص لغة الأطماع، لتحل مكانه مبدئية سياسية تستمد حضورها ووجودها من نكهة الشرق، وما تحمله من بذور إنسانية طاغية بالضرورة على مفردات السياسة.
وبذلك يبدو العالم على عتبة تحولات حتمية لا تقتصر على غياب قسريات الأحادية وما فرضته، بل على استبدال ممنهج لصيغ تقارب تطلعات الشعوب والدول، وربما تمكنت في مرحلة لاحقة إذا ما استطاع العالم المتعدد الأقطاب أن يشقّ طريقه وأن يستقر في العلاقات الدولية على قاعدة ثابتة ومعلنة، ربما تمكنت من فرض نفسها معياراً لتناول القضايا الإقليمية والدولية المتفجرة، والنزاعات المزمنة الناتجة عن لغة الأطماع والعقل الاستخباري الغربي، القائم على الدسائس والمؤامرات، وتسطيح دور الشعوب أو تحييده من ميدان السياسة.
وحتى ذلك الحين فإن الطرح الروسي وتغليب لغة سياسية غير تلك السائدة يشكل التحول المنتظر، ليس على مستوى العلاقات، بل في المقاربات التي ستشملها المحاكاة الجديدة لمنظور المشهد الدولي بضفاف متقابلة، ولو كانت غير متناظرة في الشكل أو المحتوى، لكنها على الأقل ستعيد إلى لغة الدبلوماسية الدولية ما افتقدته من حصافة سياسية ومن منطق غائب أو مقلوب، وهو ما سيسري بالضرورة على المصطلحات القابلة للتأويل وعلى الشعارات الزائفة وعلى المقولات المنافقة، تحديداً تجاه التحدي الأخطر الذي يواجه العالم وهو الإرهاب.. بمعناه وتعريفاته الممنوعة من الخروج إلى العلن حتى اليوم.
الانقلاب الحقيقي اليوم يحاكي بزوغ فجر جديد في العلاقات الدولية، أساسه وبنيته وربما إرهاصاته غير المنظورة كانت هنا من هذه الأرض، ومن هذه الجبهات المفتوحة على الملأ في مواجهة الإرهاب، وقد دفع السوريون ثمناً باهظاً، وسددوا ضريبة غالية، لكنها في نهاية المطاف خدمة للبشرية، وهو قدر طالما لازم سورية والسوريين في أن يكونوا رواداً في التصدي والمواجهة، وأن يكونوا في محاكاتهم للقضايا العالمية جزءاً من حراك الشرق في موسمه وتوقيته وزمانه نحو العودة إلى مسرح الحدث من بوابة نظام عالمي ينهي استلاباً بغيضاً ومؤذياً للشعوب والدول على حد سواء.
تنشر بالتزامن مع الزميلة «الثورة» ـ سورية