«ياسمينة الدار»… بوح الروح عند مشارف الغياب
عبير حمدان
يبقى من عبورنا على هذه الأرض بوحٌ ممتزج بحفنة تراب يعلو ويبتكر غيمة مثقلة بالحنين المنسكب بين التفاصيل حيث يتشكّل الربيع عند مشارف الغياب.
لم تغب فاطمة العبدلله عن الدار المزنّرة بالياسمين حضرت أوراقها والمداد بما يشبه الألق لتأتي اللغة طيفاً يلامس استكانة المقل وهي تغالب احتراقها، نصوص تتحدث عن صاحبتها التي ما انفكّت يوماً عن مقارعة الحياة بحلوها ومرّها.
«ياسمينة الدار»، البوح الفصيح الذي جهدت خديجة العبدلله، شقيقة الزميلة الراحلة فاطمة العبدلله ليكون بين دفّتَي كتاب من منشورات «حواس»، استحضر طيف الإنسانة والشاعرة المثقفة التي واكبت انطلاقة عددٍ من المؤسسات الإعلامية المكتوبة والمرئية وبقيت بصمتها راسخة رغم كل رياح التغيير الطارئة على الفضاء الإعلامي.
وجه الأمّ يسكن المكان والزمان والدمع يخجل من زمن طوقته السطحية. هو الدمع الذي يأبى وجوده بين القحط الثقافي القائم كونه يفوقه رفعة، وحدها تلمست وجع المسير وأطلقت من خلف قضبان الأسر أسراب البلابل. في زحمة الألقاب المصطنعة يختار المبدع ركنه الخاص، يتقن صوغ نصوصه لكنه ينأى بنفسه بعيداً عن ضجيج التسابق إلى الضوء… رؤيته هي الضوء المختلف. فاطمة لم تسع يوماً الى توسط الدائرة التي يرنو إليها اللاهثون لبريق الشهرة ربما لأنها أدركت أن الثقافة أسلوب حياة وفعل مقاومة بمعناها الفطري والبسيط الذي يشبه الناس من دون أدوات تجميلية وأقنعة، وكانت أقوى من الوجع بما اختزنته روحها من كلمات وقارعت العتمة متسائلة:
ما الخطأ في أن يتعلق الغريق بلوح خشب أو عود أو قشة؟
ما الجرم في أن يصنع لنفسه قنديلاً مزججاً وملوناً لكي يتحمل عتمة ألوانه؟
تقلب صفحات كتاب «ياسمينة الدار» كمن يطوي تضاريس القرى ويضمّ رحيق الحكايات، لا يخشى الريح، وتبقى الوحدة طقساً مختلفاً:
تأبى الياسمينة إلّا أن تزهر في الشتاء
تتحدى الريح وأصواتاً تعلن رحيل الأزاهير
وغياب البلابل
واستقالة الفراشات عن موعد عشقها
لكنها وحيدة تبقى
تصرّ على أن تفتح أجفانها
وكأنها تسمع نداء الروح
ونديّة
باسمة
تنشر عبقها
ويذوي ذاك الصقيع!
نجدها بين السطور وصدى الحبر نزف يتعمد بعطاء الغمام، تدرك أن ما بعد الحياة انبعاث للذات الهائمة بين التناقضات تغالب الألم بالإرادة وترسم الفرح بهيئة الورود المبعثرة بين حجارة الدار، حبرها يصبح المدى الرحب يشبه رذاذ المطر الخجول على شباكها في بلدتها الجميلة وهي التي عشقت الحقول كما ذاك الفارس الذي عانق ترابها فكانت الحكاية:
ويحكى أن فارساً امتدت أصابعه على العشب في حقول بلادي
استيقظ بعد حزن وماج حتى طاول السماء
ويحكى أنه زار الأرض التي اشتاق إليه ترابها
ففتحت ذراعيها وقالت: أهلاً
ويحكى أنّ الياسمين هبّ ليأخذ من عبقه بعض حياة
ويحكى أن الفارس ما ترجّل عن صهوة جواده
لكنّه في رحلة الغياب
الحضور
في سجلّ الوجود
أفتر ثغره وحكى: ها أنا أتناسل ووجهي يلبس كل الوجوه
ها أنا
أنتم
ابتسموا
فالوعد آت، آت.
تلك التي بقيت حرّة تسلل الربيع الى يراعها وسخرت من سجّانها، قاومت وكتبت وكأنها سعت إلى توثيق النبض المنبعث من حنايا الأمنيات. لم يكسرها التعب ومن الصعب أن نقرأها على عجل. هي تدعونا إلى مائدة اللغة بخشوع المتعبّد وهنا يصبح الصمت حالة خاصة. وحين نفقد قدرتنا على التعبير نستعير كلماتها التي تقول:
الشيء الذي لا يمكن التعبير عنه بكلمات
لا يمكن إدراكه إلا بالصمت!
بطاقة تعريف
فاطمة العبدلله 1962ـ 2015
من روّاد الإعلام في لبنان، واكبت انطلاقات عدد من المؤسسات الإعلامية المكتوبة والمسموعة والمرئية.
وقّعت أعمالها الأولى بِاسم زهراء السيد.
ساهمت في إعداد وتقديم عددٍ من البرامج الإذاعية في إذاعتَي «النور» و«البشائر»
عملت في القسم الأدبي في مجلة «الوحدة الإسلامية»، وفيها نشرت تجربتها في الإعتقال على يد الصهاينة في معتقل «الجلمة» في فلسطين المحتلة.
عملت في جريدة «العهد»، ومجلة «البلاد»، ونشرت عدداً من الدراسات والأبحاث الأدبية، وأجرت حوارات مع رموز الأدب والفكر والعلم في لبنان.
انضمّت إلى أسرة قناة «المنار» منذ تأسيسها، فأعدت وقدّمت عدداً من البرامج، الثقافية منها خصوصاً.
أعدّت وقدّمت البرنامج الثقافي على قناة «العالم» لمدة سنتين حاورت خلاله عدداً من الشخصيات الثقافية في العالم العربي.