مصر مطفأة الحريق… وتدفع الثمن
روزانا رمّال
ليست سنوات «الربيع العربي» التي كان لمصر فيها حصة الأسد بعدما عاشت شراراتها مرتين بعيدة عن اهتمامها بتداعياتها، ولا حتى عن دفع أثمانها التي أخذتها نحو نوعين من الضفاف التي لم تكن توضح في كلّ مرة إلا وضعية مصر وضياعها بين «الدولة» و»الدور»، كما كان يقول الراحل محمد حسنين هيكل في معرض حديثه عن حضورها، وهي اليوم تلعب بشكل رئيسي دوراً مفصلياً يضعها عند حدود الكلمتين.
مصر التي تقدّمت من الضفة التركية القطرية تعيش اليوم تجاذبات الضفة السعودية، وهي التي تشكل بحدّ ذاتها معضلة أمام دقة وحساسية موقف مصر تجاه دول إقليمية ليس من السهل فتح أزمات ظرفية معها إرضاء لرغبات حليف يتخبّط في ملفات متتالية.
ليست زيارة الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز معبراً نحو تأكيد الدور المصري الكبير، ولا معبراً أيضاً نحو الاعتراف بالنفوذ السعودي عليها، وهو الذي لا يعني في المعادلة أكثر من إمكانية صرفه بمكان واحد لا يتعدّى الاتفاقات المالية التي تعقد بين القاهرة والرياض منذ سنوات طويلة، والبعض منها يأتي على شكل قروض وليس هبات، لكن الخبراء يؤكدون نسب الاستثمار الخليجي العالية في مصر جراء هذه العلاقة الضرورية مع السعودية بشكل خاص، بالتالي تبقى الفائدة الأساسية هي اقتصادية بحتة، لكنها لا يمكن أن تغيّر ما بات واقعاً وحقيقة عند السعوديين الذين تعرّضوا لأكثر من سقطة على مستوى الحساب الاستراتيجي.
زيارة الملك سلمان إلى مصر تأتي في ظلّ الإعلان عن نيات البدء بالحلّ السياسي في اليمن، الذي يعتبر أول بوادر الحلول المقبلة على المنطقة، وهي تنتظر نجاح الحلّ اليمني لتصبح جزءاً من تاريخ التحوّل الجديد في الأحجام والنفوذ، لكن الزيارة شكلت بطبيعتها ظروفاً وتوقيتاً وشكلاً حدثاً لافتاً رسم تساؤلات عديدة.
قدّمت جامعة القاهرة للعاهل السعودي «دكتوراه فخرية»، وحجبت إدارة «نايل سات» المصرية قناة حزب الله عن مشاهديها العرب، وقدّم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بدوره اعترافاً تاريخياً بالإعلان أنّ جزيرتَي تيران وصنافير مصريتان في موقف شكل مفاجأة لأغلبية المصريين الذين يطالبون بتوضيح ما جرى توقيتاً ومعنىً.
من مصر يحصل الملك على كلّ هذا تأكيداً على افتقاد السعودية ما يبهر من أجل إعادة المشهد المزدهر لدورها في المنطقة، ومن أجل إعادة ما خسرته في الملفات الكبرى التي جعلت من المملكة دولة بدور محدود عاجز عن حسم ما بدأته، وكانت حرب اليمن التي دامت سنة حتى اليوم مثالاً جدياً على إنّ الرياض، وبالرغم من أنها عاصمة إقليمية كبرى بدأت حرباً تعجز عن إنهائها، وها هي مصر التي اختلفت معها في موضوع المشاركة في الحرب على اليمن والقتال العسكري الميداني، تشارك اليوم بتكريم الملك لما تحمله من رمزية عربية قادرة على حشد أكبر قدر من المتابعين العرب.
يستعطي الملك السعودي اليوم إنجازات قادرة على إحياء ما أفسدته الحروب التي قادتها بلاده في سورية واليمن والعراق، لكن كلّ ذلك لا يعني انّ شيئاً قادراً على تغيير المعادلات العسكرية ولا الإنجازات الميدانية لخصوم السعودية، كما أنه غير قادر على إخفاء الحدث الأكثر اهمية المتمثل بالدخول الروسي إلى المنطقة، وغير قادر أيضا على إبعاد تداعيات الزلزال الذي أصاب المملكة بتوقيع الإيرانيين اتفاقاً مع الغرب، وإنهاء الملف النووي بتوقيع عقود اقتصادية مع دول أوروبية كبرى أخذت تتوجه سياسياً نحو الموقف المهادن مع طهران، وما له من تأثير على إنجاح مساعي الهدنة في المنطقة بدلا من التصعيد الذي قادته المملكة.
تدفع مصر اليوم ثمن التسويات المقبلة وتلعب دور مطفأة الحريق بتكليف أميركي واضح يبتغي إنزال السعودية عن السقوف العالية، التي وضعت نفسها فيها، في محاولة أميركية لتمهيد الطريق وفرش أرضية جدية تجعل من جلوس السعودية على طاولة المفاوضات السورية بظلّ وجود الرئيس الأسد امراً معقولاً، وهنا تعلن مصر عن «سعودية» الجزيرتين وترخي أجواء من المكاسب وسط الخسائر المطبقة على الرياض، في وقت يتحدّث خبراء عن أهمية استراتيجية بحرية ودور فاعل وكبير فيهما.
تدفع مصر ثمن إنزال السعودية عن ذلك السلم الذي كاد يسقط على رؤوس السعوديين بشكل أول، ويكشف بهذا الدور المصري التابع للأجندة الغربية من الحلّ، والنافذة التي يمكن ان تفتح أمام مصر في الحلول، فهي أول ما تبتغيه حسم ملف «الإخوان المسلمين» والدور التركي مقابلها كدولة سنية كبرى في المنطقة مع ما تتقاسمه مع السعودية من جهة، ومن جهة اخرى ضمان مصير نشاط حركة حماس والحدّ من خطر انزلاق الأوضاع اكثر.
لا يغيب التعاون الأميركي الروسي في ما له مصلحة بترويض الأفرقاء المعترضين على الانضواء بالتسويات المؤلمة التي كلفت الكثير من المال والخسارة المعنوية والسياسية، واذا كان لمصر دور موعود في الحلول، فإنّ ذلك يكشف الرغبة الروسية بتجيير ايّ تقدّم في هذا الاطار في مشهد تستفيد منه مصر من الخصومة الواقعة بين تركيا وروسيا.
مصر التي تقدّم اليوم ما «يبهر» من تقديمات ويحرف العيون عن الانتصارات التي يعيشها فريق إيران وسورية، تعتبر مطفأة الحريق التي من شأنها ترويض المتعنّتين والرافضين لفكرة الشراكة مع إيران في المنطقة، والرافضين لتقبّل هزائم الحروب ودفع فواتيرها…