السعودية… عرَّابة صون الحقوق المسيحية في زمن التكفير؟!
علا جرجس
لم تعُد خافية على أحد المساراتُ الخطيرة التي بدأت تتجلّى في دول العالم العربي، والتي بدأت تداعياتها تُهدِّد تاريخ هذه المنطقة وحضارتها. والأسوأ أنّ جميع اتجاهات المنطقة تظهر كأنّ الوجود المسيحي يحتاج إلى أن يكون في ذمّة أحدهم، ويبدو أنّ هناك ذمماً تقبل الوجود المسيحي كوجود أساس، إلاّ أنّ ذمماً أخرى تعتبره طارئاً وتعتبر استئصاله من ضمن عقائدها الثابتة.
ممن المفيد أن نستحضر اليوم بعض ما رُسِم لهذه المنطقة منذ مئات الأعوام، وبعض الاستراتيجيّات التي قادَت الدول العربية الى التفكّك، والتخوّف الذي كانت تُبديه دول الغرب من توحّد الدول العربية. نستَحضر مثلاً ما تنبّأ به صموئيل هنتنغتون في كتابه «صدام الحضارات» من أنّ «الصراع في العالم الجديد لن يكون إيديولوجياً أو اقتصادياً بل ثقافياً أو حضارياً بالمعنى الأدق». ما يحصل اليوم هو نتاج أفعالنا، إذ لستُ ممَّن يُحمّلون الغير أخطاءنا وإخفاقاتنا، لكن من المفيد النظر الى طريقة بناء الاستراتيجيات وبالتالي التعلّم من أخطاء الماضي لبناء المستقبل. ففي خضمّ التدهور الكبير في اتجاه الصراعات الدينية والثقافية، لا بدّ من وجود دور أساسي وصوت مسموع للإسلام المعتدل والمنفتح. لفتني مقالٌ نشر في صحيفة «الايكونومست» في 5 تموز 2014، بيد أنه لم يُثر ويا للأسف انتباه أيّ من الإعلام العربي، وهو تحت عنوان «The Tragedy of Arabs»، ففيه إشارة الى التدهور الغريب في البلدان العربية، وتأكيد على أنه منذ ألوف السنين كانت العواصم العظيمة بغداد مثل دمشق والقاهرة تتقدم على العالم العربي، فـ«الاسلام والابتكار كانا توأمين» فيها، ووُصف الخلفاء العرب بأنّهم كانوا قوة ديناميكية ومنارة للعلم والتسامح والتجارة. واعتبر المقال «أنّ على الاسلام المعتدل والمنفتح والذي يضمّ أكثرية العرب المسلمين، أن يُسمِع صوته راهناً، وعندما يحين وقته يجب أن يعيد تبنّي الأفكار التي صنَعت مجد العرب يوماً، المجد الذي تجلّى في التعليم الذي أثبت تفوّقه في الطب والرياضيات والهندسة المعمارية وعلم الفلك والتجارة المتطوّرة، وتجلّى في مجتمع كوسموبوليتيّ يضمّ اليهود والمسيحيين والمسلمين وعزَّز التسامح فيه الإبداع والاختراع». إنّ ما خُطِّط للمنطقة بات واضحاً للعيان. وما كان مجرّد استراتيجيات على ورق بات يُنظر إليه بالعين المجرّدة: التقسيم في العراق، الفوضى في ليبيا، والتقسيم في سورية…
مصر ولبنان ليسا في أفضل الأوضاع، أمّا اللافت فهو أنَّ أسوأ ما تمَّ تهديده هو كسر المجتمع الكوسموبوليتي الذي كانت تُمثّله البلدان العربية مع انحرافٍ نحو التشدّد ورفض الآخر، وهذا يسيء ليس الى المسيحيّين فحسب بل الى الحضارة العربية العريقة كلّها. وبالتالي باتَ ما يُخطّط للعالم العربي واضحاً: تفتيت البلدان وتهجير المسيحيين، وبناء دول ضعيفة متشرذمة غير قادرة على السيطرة اقتصادياً على المقدرات الهائلة لتلك البلدان. اليوم، أصبح مؤكداً أنّ على الدولة التي تُعتبر مهد رسالة الاسلام أن تلعب دوراً جذرياً في قلب هذه الاستراتيجية، وأرى أنّ للمملكة العربية السعودية دوراً أساسياً في هذا المجال، فالمطلوب اليوم هو التخطيط للمستقبل من خلال الماضي. وأودّ التذكير باتفاق الطائف الذي، شِئنا أم أبينا، سيذكره التاريخ باسم الطائف الذي ساهم في إيقاف الحرب الأهلية في لبنان، وفرض صيغة عيش مشترك بين مختلف الأطراف، غير أنه لم يفلح ويا للأسف في فرض حياة مُشتركة. انطلاقاً ممّا ورَد في «الإيكونومست» حول ضرورة انطلاق الأصوات المعتدلة لإعادة القيم الاسلامية الحقيقية، نرى أيضاً أنّ للمملكة العربية السعودية دوراً أساسياً في هذا المجال. ورغم نظامها الإسلامي المتشدّد إلاّ أنّها قادرة على إعادة أيّام العز إلى المنطقة العربية عبر تبنّيها قيم الانفتاح والعدالة والابتكار والعلم. يجب أن تترجم السعودية حرصها على هذه القيم في المنطقة كلها، فالقيم هذه تبقى شبكة الخلاص لشرقنا. وقد يكون لبنان البلد الأفضل كمثال أو ما يعرف بـBenchmark ، ليس للمنطقة فحسب بل للعالم أجمع، وكرسالة ليس للعيش المشترك حصراً، بل للحياة المشتركة بين سائر مكوّنات هذا الشرق العظيم. وعلى السعودية أن تعطي من لبنان إشاراتٍ لا تقبل الجدال حول أنّ الإسلام لا يتعارض مع الانفتاح وقبول الآخر. فبعد مرور 25 عاماً على اتفاق الطائف، بات واضحاً أنّ ما كان مقصوداً منه بالمناصفة لم يدخل حيّز التطبيق، بل فُرضت قوانين انتخابية تسمح بمدّ اليد على النصف المسيحي. في حين أنّ التعريف الحقيقي للمناصفة هو أن يأتي المسيحيّون بنصف النواب ويأتي المسلمون بالنصف الآخر، إلا أنّ التشوّه الذي لحق بالطائف جعل مفهوم المناصفة ناقصاً وخلّف إحباطاً لدى الشريك المسيحي. إنّ إنصاف المسيحيين اليوم مسؤوليّة سعودية بامتياز. فالسعودية التي لعبت دوراً أساسياً في إيقاف الحرب الأهلية في لبنان وفي توقيع اتفاق الطائف، يجب أن تلعب دوراً في تقويم مسار اتفاق الطائف، لتُرسل إشارات أساسية إلى الغرب والعالم العربي بأنّ التعدّدية هي ميزة تدعمها السعودية ولا تقمعها، وأن تجعل لبنان مثالاً أساسياً Benchmark لجميع الدول العربية والعالم على ما أسلفنا. وما يُروّج عن أنّ الأنظمة الإسلامية لا تتقبّل الآخر أفكاراً خاطئة تُروّج لصبغ المنطقة كلّها بلون واحد. يجب أن تُعطي السعودية إشارة من لبنان الى جميع المسيحيين في الشرق بأنّ وجودهم مطلوب ومبارك، وأنّ استعادة الحقوق المسيحية مطلب سعودي قبل أيّ شيء آخر.
إنّ إرجاع الحقوق اليوم هو مسار أبعد من مجرّد رئاسة الجمهورية. هو نظام متكامل ويجب أن تتمتَّع المملكة العربية السعودية بالشجاعة اللازمة للعب هذا الدور المصيري في هذا العصر المظلم من اضطهاد المسيحيين، في إشارات واضحة الى حملة تفريغ المسيحيين من الشرق. يجب أن تُعيد المملكة العربية السعودية، بما تمثله للدين الإسلامي، قيادةَ حملة إرجاع الحقوق المسيحية والسعي إلى تثبيت المسيحيين في بلدانهم ومناطقهم، لتكون بذلك العرّابة الأساسية في صون الحقوق المسيحية. بات خطيراً انتظار انتهاء مفاوضات إيران مع الغرب لإطلاق هذه المبادرة، فالمنحى الخطير الذي اتّخذه اضطهاد المسيحيّين في الشرق يُحتّم على السعودية إطلاق المبادرة اليوم قبل غد، فالتاريخ سيذكر مَن ساهم في تفريغ الشرق من مسيحيّيه، ومَن كان العرّاب الأساسي للحفاظ على شرق الانفتاح والتسامح وصون الحقوق. من الضروري اليوم إخراج حقوق المسيحيين من بازار التناحر السنّي – الشيعي، ومن بازار المزايدات السياسية، والمصالح الاستراتيجية. فالدول العربية التي كانت منذ آلاف السنين رمزاً للانفتاح والعلم والتعددية وتشجيع الابتكار، أضحت في رأي العالم في أسفل سلّم الدول المؤثرة، وتهجير المسيحيّين سيضاعف انحدار هذه الدول في سلّم التطور والتعددية وحقوق الانسان. لو نظرت السعودية بعين الأمر الواقع الى الدور المسيحي في تحالف قسم منه مع الطرف الشيعي، لكان عليها ربما إعادة الاعتبار إلى أنّ هذا التحالف تستطيع اكتسابه لمصلحتها، فهذا الفريق المسيحي هو العراب الأكثر تجرّداً لإدارة تفاهم سنّي – شيعي مضمون النتائج. عصر الخلفاء الكبار يجب أن يُستعاد، وخلفاء الحكمة والعقل والعلم والانفتاح، ودور السعودية أساسي في هذا السياق. فهل ستقف المملكة في هذا المنعطف التاريخي الأساسي مكتوفة الأيدي؟ أم تستعيد دورها كحاضنة للجميع، وللمسيحيين، والحقوق، وتعيد دورها في إعادة تثبيت قيَم العلم وصون الحضارات والتطوير بدلاً من قيم التكفير والتخلّف.