الأديبة الفلسطينية رجاء بكرية في روايتها «امرأة الرسالة»… روائية مختلفة!
الطيب ولد العروسي
ما تكتبه بكرية يوحي إلينا بالكثير. كأنها كتابة توهم من يقرأها بأنها تناقش موضوعات إيروتيكية موغلة في الحميمية، غير أننا نفاجأ فور أن نتعمق في قراءاتها. إذ يتبين لنا أن الشحنات الدلالية الجنسية هي غطاء للقول، ولاكتشاف مرامي وأهداف بعيدة تريدها الكاتبة، ومفاتيح لمدنٍ نعثر عليها للمرة الأولى في ثنايا النص، يفتحها واحدة واحدة بمهنية ودراية، فيستحيل إلى نص يضج دلالات، ذي شحنات دلالية، ودرامية غير معهودة، خصوصاً أن رجاء بكرية تعمقت في روايتها، لتصلنا بواقع القضية الفلسطينية لفلسطينيي الداخل الفلسطيني، وأعني فلسطينيي 1948. يجري ذلك من خلال قصة حب عاصفة، بين رجل وامرأة، «غسان» و«نشوة». وعبر خيط التلاحم هذا نكتشف أيضاً موقع المدن والعواصم العربية والغربية مما يجري في فلسطين وفق رؤية الساردة، إذ تتابع «نشوة» تنقلات عشاقها.
تتقاطع هذه الأحداث مع الاهتمام والتركيز على القضية الفلسطينية وتشعباتها، مع حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال في مدن عكا وحيفا ويافا، هذه المدن الثلاث التي كانت مركزاً مهماً لأحداث روايتها، كما كانت تاريخياً. حيث تنقلنا الساردة عبر شوارع هذه المدن ومقاهيها ومكتباتها ومؤسساتها الثقافية، ما يذكرنا بالروائي الفرنسي باتريك موديانو الذي نتعرف من خلال أعماله إلى طوبوغرافية مدينة باريس في غالبية الأحيان في الليل، وهذا ما نجده لدى رجاء بكرية حينما تتوغل في وصف مكونات تلك المدن، والأنشطة التي تقيمها، خصوصاً في الشق المسرحي الذي تتركز حوله اهتمامات الراوية، لأن «نشوة» باحثة في شؤونه وتقيم في مدينة حيفا، أما عاشقها «غسان»، فهو مخرج مسرحي مقيم في مدينة عكا.
تجدر الإشارة إلى أن الحكي يعتمد على الرسالة التي تركتها «نشوة» لعشيقها «غسان» على شكل قصاصات في مخدة نومه بعدما تركته وغادرت إلى لندن. منها صنع مادة المسرحية، التي قدم عرضاً لها تحت عنوان «امرأة الرسالة». وبدأ عروضاته لها في مدينة يافا حيث جسدت تلك الإشارات الأولية، عبر وصف الطريقة التي قررت أن تسطو بها على ذاكرته عن بعد. هي قطعة أخرى تضاف إلى الرسالة الأولى المطولة التي أرسلتها إليه، إذ وصفت فيها نوعية الورق الذي استخدمته لكتابة الرسالة، ومكتب البريد الذي بعثته منه، وقد استغرق الأمر منها عدة ساعاتٍ وهي تتنقل من مكتب بريدٍ إلى آخر .
تتطرق الراوية إلى الجرح الفلسطيني الذي مر ولا زال يمر بويلات ومشاحنات ومزايدات عربية وغربية، ولمسارها عبر الفصول التاريخية التي مرّت بها، وإلى تشرد الفلسطيني في مدن العالم هذا من جهة، ومن جهة أخرى إلى الاستيطان «الإسرائيلي» في التراب الفلسطيني، على مرأى ومسمع من المؤسسات العالمية، وعلى رأسها المنظمات العالمية لحقوق الإنسان، ومنظمة الأمم المتحدة التي لم تستطع أن تفرض على «الإسرائيلي» تطبيق أي من القرارات، وأبقتها حبراً على ورق.
والجدير ذكره أنها رواية تتطرق إلى ما يحدث في العالم العربي من هزات وتغيرات تنعكس سلباً على القضية الفلسطينية، هذه المعطيات معاً، تشكل الاسمنت الحقيقي لانشغالات الساردة. وللحديث على كل هذه الانشغالات تدخلنا الساردة إلى المسكوت عنه في ثقافتنا العربية، لأنها تنقلنا إلى أسرة الرجال وغرف نومهم، وتعلن بصوت عال تفاصيل ما يحدث في تلك الفضاءات. عن علاقة الكائنات مع بعضها، وتنقل هواجسهم وانشغالاتهم وتطلعاتهم، خصوصاً مسألة المومسة ودخولها قاموس العشق عبر الحالة التي وصل إليها «غسان»، بعد تشوّهه النفسي في السجن. ثم علاقة «نشوة» بالرجال التي تعرفت إليهم، وعاشت معهم لحظات إنسانية جميلة، فتركوا فيها بصماتهم. ثم أنها تتبعت مصائر الرجال لتعرف بفداحة المستعمر تجاه «غسان» الذي اختلق له قضية وسجنه خمس سنوات، رغم أنه ليس أكثر من رجل مسرح، وفنان أراد أن يواصل نضاله وقتاله عبر الكلمة والريشة. هذه الأدوات عندما تستعمل بوعي ترهب الاستيطان وحكامه وخدامه وهذا ما تؤكده رجاء بكرية حينما تعلن، في أحد حواراتها: «أردت أن يعرف العرب قضيتي من خلال طبيعة شخصياتي كبشر يحبون ويكرهون، يعشقون ويعشقون، يقاتلون ويقتلون، ويفتشون عن رغبات أجسادهم كما يفتشون عن رغبات تاريخهم. أردت أن ينكتب اسم عكا وحيفا ويافا في ذاكرة القارئ العربي عبر بوابات جديدة للذاكرة والحدث».
لعل أهم محور تطرقت إليه الروائية في عملها، مسألة هوية فلسطينيي الـ1948 الواقعين تحت الاحتلال، وهي قضية شائكة، لأنها تتحدث على أولئك الذين لم يغادروا ترابهم، هم وأولادهم وأحفادهم منذ النكبة حتى اليوم، وعن معاناتهم أيضاً من العرب كونهم يحملون جواز سفر «إسرائيلياً»، وكأن الأمر جرى وفق رغبتهم، وليس استجابة لواقع سياسي فرضه إعلان دولة «إسرائيل» سيادتها على أراضي فلسطين عام 1948.
تلك الشريحة الفلسطينية، التي وجدت نفسها تناضل لتحقيق وجودها كأقلية في دولة أعلنت يهوديتها. ولعل الألعن أنهم حين يعارضون خيارات الدولة، التي تعتبرهم «رعاياها» تعاملهم كمواطنين من الدرجة الثانية، وتضعهم في دائرة الشك من حيث الولاء لها. وهذا ما تؤكده الراوية قائلة: «لا أعرف إذا كان الفلسطيني هنا محسوباً على دولتهم كإنسان. بقلبٍ يبكي ويضحك وحس يتألم ويفرح. لم أشعر لحظةً واحدةً أنني داخل تعريف المواطنة التي منحوها لنا منذ رفعنا الأعلام البيضاء. وبطاقتي الزرقاء لم يقرؤوها على الحدود منذ دون أن يصنفوني ضمن خلية الارهاب التي يدرسون أوصافها وفق معايير مفترضةٍ عن أشياء ثلاثة: القومية، الدين، واللون..». ص 83، امرأة الرسالة .
تتوغل رواية امرأة الرسالة في هموم الإنسان الفلسطيني بكل جروحه ومتاعبه ونضالاته، عبر لغة شاعرية مكثفة سلسة. وتقف تحديداً عند فلسطينيي الأراضي المحتلة في 1948. الفلسطيني الذي ساهم بشكل كبير في صناعة تاريخ المقاومة الفلسطينية وفرض حضورها، وإعلاء صوتها، ولنا في ذلك نماذج عبر عدد الأسماء المعروفة، كإميل حبيبي، محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زياد، وكثيرين ممّن حملوا همّ القضية ووصلوا بها إلى أصقاع العالم .
وتلخيصاً أقول، هي رواية تستحق أن نتوقف بعدها ونتساءل أين نحن كعالم عربي مما يجري في فلسطين التاريخية. لقد كتبت رجاء بكرية روايتها عن امرأة تكتب بحبر المدن تاريخ مكانها شأن بدنها لتحرك ضمير عالم نائم على خيبات موغلة في الفحش.
رواية «امرأة الرسالة»، صادرة بطبعتها الجديدة عن «دار الجندي للنشر والتوزيع».