الأزمة الاقتصادية العالمية والكساد العظيم في القرن الحادي والعشرين 2
مايكل تشوسودوفسكي
نادراً ما تتناول مهنة الاقتصاد ـ لا سيما في الجامعات ـ عالم الأسواق الفعلي أو الحقيقي. بل نراهم يبنون النظريات التي تركز على النماذج الرياضية المجسّدة عوالم خيالية مجرّدة يتساوى فيها الأفراد. ما من تمييز نظري بين العمال والمستهلكين أو الشركات، والتي يُشار إليها كلّها بمصطلح «التجارة الفردية». لا يمكن أن يكون للفرد الواحد أيّ تأثير يُذكر على السوق، ولا يمكن أن يكون هناك نزاع بين العمال والرأسماليين في هذا العالم المجرّد. ومع فشل دراسة التفاعل بين الفعاليات الاقتصادية في «الحياة الحقيقية»، إذ يتمّ التغاضي عن عمليات تزوير السوق والتلاعب والاحتيال المالي، تتحكم بمركزية صنع القرار الاقتصادي تلك النخب المالية والاقتصادية ومجالس إدارة الشركات: ومن الواضح أنه لا يُعرّف الطلاب على أيٍّ من هذه القضايا الاقتصادية في الجامعات… إنّ بناءً نظرياً مختلاً لا يمكن أن يقدّم فهماً صحيحاً للأزمة الاقتصادية.
علم الاقتصاد هو بناءٌ إيديولوجي يهدف إلى تمويه النظام العالمي الجديد وتبريره. وهناك مجموعة من المسلّمات العقائدية التي تخدم التمسك برأسمالية السوق الحرّة وإنكار وجود عدم المساواة الاجتماعية وحق المنفعة. لا يشكل دور الفعاليات الاقتصادية القوية وإمكانية تأثير هذه الجهات على عمل الأسواق المالية وأسواق السلع مصدر قلق بالنسبة إلى منظّري الانضباط. فنادراً ما يجري تناول مصطلحات التلاعب في الأسواق التي تعمل على تخصيص كميات هائلة من الثروة والأموال. وعندما يُعترَف بها يبدو أنّها تنتمي إلى عالم علم الاجتماع أو العلوم السياسية. وهذا يعني أن سياسات الإطار المؤسّسي التي تتخفى خلف ستارة هذا النظام الاقتصادي العالمي، الذي بدت معالمه واضحة في السنوات الثلاثين الماضية، نادراً ما تُحلّل من قبل الاقتصاديين التقليديين. ويترتب على هذا التحليل أنّ الاقتصاد كتخصّص لم ينجح في تقديم التحليل الوافي لفهم الأزمة الاقتصادية. وفي الواقع، تنكر مسلّمات السوق الحرّة وجود أزمة حقيقية. فمحور الاقتصاد الكلاسيكي الجديد يقوم على التوازن، واختلال التوازن وتصحيح السوق، أو التكيّف من خلال آلية السوق، كوسيلة أخرى من وسائل وضع الاقتصاد مرةً أخرى ـ على «مسار النموّ الذاتي».
الفقر وعدم المساواة الاجتماعية
يُثري النظام الاقتصادي العالمي قلّة قليلة من الناس على حساب الغالبية العظمى من الشعب، وقد ساهمت الأزمة الاقتصادية العالمية بتوسيع رقعة التفاوت بين الفئات الاجتماعية في مختلف البلدان وفي ما بينها على حدّ سواء. إن تصاعد الفقر في ظلّ الرأسمالية العالمية، ليس نتيجة ندرة الموارد البشرية والمادية أو نقصها. بل على العكس تماماً: يُعزى الكساد إلى فكّ الارتباط الوثيق المفترض حدوثه بين الموارد البشرية ورأس المال المادي، وهذا ما من شأنه أن يزيد من حدّة الأزمة الاقتصادية. وتُعزَّز هياكل التفاوت الاجتماعي عمداً، ما يؤدّي ليس فقط إلى إفقار عام، بل أيضاً إلى زوال الطبقة الوسطى وتلك العليا ذات الدخل المتوسط. كذلك، فإن الطبقة الوسطى الاستهلاكية التي يستند إليها الجموح الرأسمالي، مهدّدة. وقد أفلست قطاعات عدّة أكثر حيوية في الاقتصاد الاستهلاكي. وتعرّضت الطبقات الوسطى في الغرب لعقود مضت ـ إلى تآكل ثرواتها المادية. مع العلم أنّ الطبقة الوسطى من الناحية النظرية قد بُنيت واستمرّت بفضل ديون الأسرة المعيشية. وسرعان ما أصبح الأثرياء بدلاً من الطبقة الوسطى المستهلكين، ما أدّى إلى نموّ سريع في اقتصاد السلع الفاخرة. ومع نضوب أسواق الطبقة الوسطى للسلع المصنّعة، حدث تحوّل مركزي وحاسم في بنيان النمو الاقتصادي بلغ ذروته مع زوال الاقتصاد المدني، وتطوير اقتصاد حرب أميركا مدعومة بميزانية دفاعية ضخمة قاربت التريليون دولار… تعثرت أسواق الأسهم، أصبح الركود واضحاً، شهدت صناعات الأسلحة المتطوّرة وشركات المرتزقة ومتعاقدي القوى العسكرية والأمنية نمواً وازدهاراً واضحَيْن.
الحرب والأزمة الاقتصادية
ترتبط الحرب ارتباطاً وثيقاً بإفقار الشعوب حول العالم. كما يرتبط التسلّح بالأزمة الاقتصادية ارتباطاً وثيقاً. فاستُبدل توفير السلع والاحتياجات البشرية الضرورية والأساسية بـ«آلة القتل» التي يحرّكها مبدأ الربح لدعم حرب أميركا المفتوحة ضدّ الإرهاب. الفقراء يحاربون الفقراء، الأغنياء يزدادون غنى، إذ يسيطرون على الصناعة والعسكر والنفط والبنوك. فمبدأ الحرب الاقتصادية، أن في الموت خيراً لازدهار العمل، وأنّ في الفقر خيراً للمجتمع، وأنّ في القوة خيراً للسياسة. تنفق الأمم الغربية، وتحديداً الولايات المتحدة، البلايين من الدولارات سنوياً لقتل الأبرياء في الدول الفقيرة البعيدة، في حين أن الناس يعانون في تلك الدول من تفاوت في الفقر والطبقة والجنس والانقسامات العرقية.
إن حرباً اقتصاديةً صريحة تنتج البطالة والفقر والأمراض من خلال السوق الحرة. حياة الناس وقدرتهم الشرائية في تراجع مستمرّ. وقد أنتجت هذه السوق الحرّة في السنوات العشرين الماضية الفقر والعوز الاجتماعي لدى عدد كبير من الناس. وبدلاً من العمل على معالجة كارثة اجتماعية وشيكة الحدوث، تعمد الحكومات الغربية ـ وبما يخدم مصالح النخب الاقتصادية ـ إلى تثبيت دولة بوليسية جديدة تعتبر بمثابة «الأخ الأكبر»، تهدف إلى مواجهة جميع أشكال المعارضة السياسية والاجتماعية وقمعها.
باستثناء اليونان وإيسلندا المعرّضتان للخطر، لم تبلغ الأزمة الاقتصادية والاجتماعية ذروتها ـ بأيّ حال من الأحوال ـ في الدول كافة. علينا فقط أن ننظر إلى تصعيد الحرب في وسط آسيا وفي الشرق الأوسط وإلى تهديدات الولايات المتحدة وحلف الناتو المستمرة للصين وروسيا وإيران، لنشهد وندرك كم أن عاملَيْ الحرب والاقتصاد متلازمان ومترابطان بعضهما ببعض.
ترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق