جماليات «الميتاسرد» في مجموعة التونسي وليد سليمان «كوابيس مرحة»
محمد يوب
ربما لم يحظَ شكل تعبير نثريّ باهتمام النقاد والباحثين المعاصرين بما حظيت به القصة القصيرة لما لها من أهمية باعتبارها الصوت المنفرد الذي يجد صداه في نفسية القارئ، ما يساعده في صوغ سلسلة من التوقعات والافتراضات.
ومن بين المجاميع القصصية القصيرة التي استأثرت باهتمام القراء نجد «كوابيس مرحة» للأديب التونسي وليد سليمان التي جمعت بين القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً في وعاء قصصيّ سمّاه الكاتب بالكوابيس القصصية القصيرة والكوابيس القصصية القصيرة جداً. وقد تميزت هذه المجموعة القصصية ببساطة أسلوبها وسهولة سرد أحداثها لكن سرد الأحداث لم يكن بطريقة مجانية وإنما بطريقة تنمو وتنهض على حيلة استدراج القارئ لكي يتعلم فن القصة من القصة وطريقة نقد القصة من السرد القصصي «وما هو هذا الشيء الذي تعجز ربة مُتوجة عن منحه لعبدٍ فان؟ الموهبةُ الحقيقية والقدرةُ على كتابة نص جيد فإن تخط كلمات على الورق لا يعني بالضرورة أن ما تكتبه أدباً».
وهذه التقنية تسمّى في الدراسات السردية «الميتاسرد»، وهو مصطلح نقدي القصد منه أن يكسر في ضوئه القاص الإيهام السردي، والخطّية الكرونولوجية لتنامي الحكي أو الأحداث في البنية السردية، من خلال رؤيته البنيات المتداخلة والمتوازية في النص القصصي باحتواء النص القصصي القصير لمجموعة من الإشارات والدلالات يبين فيها القاص طريقة كتابة القصة وطريقة نقدها إضافة إلى شحن القصة القصيرة بمجموعة من المعارف والمحتويات التي تبين مقروئية القاص واطلاعه على كثير من الآداب المحلية والقطرية و العالمية. بمعنى أن هذه الإشارات إلى جمالية القصة القصيرة وطريقة كتابتها ونقدها وتقاطعها مع أعمال قصصية عالمية هي جزء من العمل القصصي مرتبطة به ارتباطاً وثيقاً ساعية إلى الكشف عن رؤية القاص وتصوراته عن القصة القصيرة «القصة ما هي في حقيقة الأمر إلا عقد ضمني بين الراوي والقارئ وطالما أن القارئ راض والراوي راض فأنا لا أفهم سبب تدخل النقاد والمنظرين في الموضوع».
القاص هنا يسعى إلى البحث عن فنية إضافية يستطيع من خلالها تصحيح التصورات الخاطئة عن القصة القصيرة فيقوم حينها بدور القاص والناقد يفكك النص القصصي ويخلخله وفق رؤية السارد الذي يقدم فهماً جديداً للعملية الإبداعية التي تعيد صوغ العالم القصصي الموجود بعالم قصصي بديل.
إن السارد ووراءَهُ القاص هو المخوَّل بتقديم التصور الصحيح للكتابة القصصية وللكيفية التي ينبغي أن يكون عليها الكاتب الحقيقي لأنه «أن يُخلد التاريخ اسمك ليس بالضرورة أمراً جيداً فالتاريخ يمكن أن يخلد اسماً مكللاً بالعار أنا حذرتك ولك مطلق الحرية». والسارد/القاص لا يستسلم ولا ينسحب على رغم عناد الكتّاب الذين لا يقتنعون بتصوّراته حول الكتابة إنه يبقى متتبعاً لهم مصاحباً لهم إلى آخر نفس من أجل تعليمهم المعنى الحقيقي للكتابة الأدبية، «واعلم أنك ستجدني إلى جانبك كلما احتجت إليَّ».
كما لا يوجد في الحقل الثقافي والأدبي كاتب كبير وكاتب صغير إنما يوجد عمل أدبي كبير وعمل أدبي صغير وبإمكان الكاتب المغمور أن يكتب عملاً إبداعياً راقياً ينافس أعمال أشهر الأدباء لأن الكتابة الأدبية موهبة تُصقل بالقراءة وكم من كاتب صغير كبره عمله وأدخله التاريخ الحقيقي للأدباء في صينية من ذهب وأحياناً يجلب إليه نقمة الكثير منهم كما حدث للسارد الذي جر عليه نقمة وغضب الكاتب الأميركي بول أوستر، الذي اتهمه بسرقة أحد أبرز أعماله الروائية «اختراع العزلة» ونسبه إلى نفسه لكن السارد كان مقتنعاً بنفسه مدافعاً عن قدرته على إبداع أفضل من هذا العمل وأنه مبدع حقيقي لا يجري وراء الجوائز، «يبدو أن الأمور اختلطت عليه واعلم أن الجوائز الأدبية لا تعني لي شيئاً».
إن النصوص القصصية في «كوابيس مرحة» تبدو ذات خصوصية مميزة في ظاهرها يشعر القارئ بأنها ذات بنية حكائية بسيطة مفككة لكن الحقيقة أنها تعكس واقعاً اجتماعياً وثقافياً وسياسياً مفكّكاً، «رغم محاولات الحكومة المستميتة للتكتم على الخبر اعترفت في بيان لها بصحة خبر الذبذبات التي أكد علماء الأرصاد الجوية أنها من نوع الإشارات الربانية». ليستمر السارد في تتبع حالة الاستهتار بعقول المواطنين بإصدار بيان «نحن أعضاء الحكومة المجتمعين قررنا بعد المداولة والتشاور إحداث حقيبة وزارية جديدة تحت اسم وزارة الشؤون الميتافيزيقية، في إشارة إلى حالة من التردي والهبوط الفكري الذي عرفته تونس ومعها دول كثيرة في العالم العربي زمن الربيع العربي المزعوم فالسارد هنا يحاول إعادة بناء الواقع العربي المتردي وتركيبه وفق منظوره الخاص.
كما أن الكوابيس المرحة لم تقدّم مادتها القصصية المرة/المريرة بشكل مباشر إنما قدّمتها ممزوجة في ملعقة من عسل بأسلوب هزلي فكاهي مرر من خلاله السارد خطابات كثيرة ومتعددة ذات طابع سياسي واجتماعي كأن يربط غرق البلاد في عُرض الفوضى والرغبة في النجاة بالاعتماد على باخرة «تيتانيك»، «وفعلاً تنفس السائح الصعداء وهو يرى باخرة تقترب منهما وينزل منها طوق نجاة واستطاع أن يقرأ بوضوح اسم الباخرة على جانبها الأيمن: تيتانيك».
إن الواقع المعيش أصبح مرعباً يبعث على الفوضى والانجرار إلى الغرق وضياع البلد في ظل غياب تام لحكومة سبقها أنفها كما أنف جوجول الذي قفز على منصب صاحبه «فوجئ جميع أفراد حكومتنا الموقرة قبل أيام بظاهرة غريبة فكلما التُقطت صورة لأحدهم ظهر بأنف أحمر طويل جداً». لتنتهي القصة بتعليق فشل الحكومات العربية على مشجب المؤامرات الخارجية، «إن كل ما يحدث هو بسبب مؤامرة تحاك ضد الدولة وتقف خلفها جهات أجنبية لا تريد الخير للبلد».
وهكذا، يمكننا القول إنّ المنجز القصصي الذي باشرناه مقارباتيا يحاول خلق عالم بديل عن العالم المعيش وذلك بالاستناد إلى الخيال وبالكتابة يتجسد الخيال ويصبح واقعاً معيشاً وتصبح القصة القصيرة والقصيرة جداً بمثابة كوابيس مرحة تقضّ مضجع القاصّ والقصة والقارئ معاً.
ناقد مغربي