من الحرب الناعمة إلى الحرب الأشدّ نعومة: مَن سيحوّل التحدّي إلى فرصة؟

ناصر قنديل

– تقع الحرب عندما تكون حسابات الموازين لصناعة النصر والهزيمة متباينة بنيوياً وكلياً بين الفريقين المتقابلين، ويقع النصر والهزيمة عندما يتمكّن أحد الفريقين من نقل الحرب إلى ساحة صنع فيها تفوّقه دون أن يبدو الانتقال هزيمة في ساحة سابقة للمواجهة، وغالباً ما يكون الميدان هو الوقت أو الجغرافيا أو ساحة التباري بأدوات وقواعد جديدة، والحروب الوجودية بالنسبة إلى فريقَيْن متصارعَيْن هي حروب متدحرجة من ساحة إلى ساحة ومن ميدان إلى ميدان حتى تتحقق لحظة الإطباق على نقطة ضعف الآخر، من طرف يملك قيمة مضافة تنجح بتحويل التحدّي إلى فرصة فتفاجئ ما ظنّه الخصم حساباته الكاملة ويذهب صاحبها هنا لتحقيق النصر، أو تتحقق التسوية.

– تختلف واشنطن عن حلفائها وخصومها، بكونها تمتلك أكثر من أيّ أحد آخر نقطة قوة لو امتلكها الآخرون لسقطوا سقوطاً مدوّياً، وهو كونها طرفاً بلا مبادئ ولا قيم ولا عقائد ولا ثوابت، ولا شعارات نهائية لحروبها، ولا خصومات نهائية في حساباتها، ما يمنحها مرونة عالية في الانتقال من ميدان إلى ميدان من جهة، ومرونة موازية لتقبّل الهزيمة والدخول في صناعة التسويات من جهة أخرى، لكن غالباً ما تنتقل واشنطن من المواجهة إلى صناعة التسويات لجعل التسويات نفسها ساحات حرب جديدة تثق بقدرتها على امتلاك فرص أفضل للفوز بها، وتنتقل إلى صناعة تسوية منها وهي تثق بنصر لاحق، وتنظر غالباً لما يظنّه خصومها هزيمة لها بصفتها نوعاً من النصر لاختصار الحرب تفادياً لمزيد من الخسائر تمهيداً للانتقال إلى ساحات جديدة للمواجهة بظروف أفضل ومصادر قوة أعلى.

– في حروب المنطقة الدائرة على تكوين نظام إقليمي جديد ونظام عالمي جديد، في لحظة تفقد فيها أميركا الكثير الكثير من مصادر قوتها، يثبت فشل الحملة العسكرية الإمبراطورية التي قادتها واشنطن لعشر سنوات، كما فشلت الحرب الناعمة التي قادتها كبديل من بوابة ما عرف بالربيع العربي والعثمانية الجديدة عبر أخونة المنطقة، وهي تواجه بحصيلة الحربين الخشنة والناعمة نتيجة مكرّرة هي تجذّر الإرهاب وتحوّله إلى مصدر تهديد للأمن العالمي، وتجد أنّ الوقت ينفد من بين يديها من جهة سواء في خطر المزيد من تجذّر الإرهاب أو في دنوّ موعد خروجها من أفغانستان، وفي الحالين حاجتها للانخراط مع خصوم الأمس شركاء الغد، ومن جهة مقابلة تجد أنّ ما بعد الانخراط في التسويات يجب أن يكون مسرحاً لحربها الجديدة بنسختها الثالثة الأشدّ نعومة، وهي الحرب للفوز من قلب التسويات.

– تدرك واشنطن استحالة الذهاب للحرب الأشدّ نعومة دون إطفاء نيران الحروب التي يشعلها حلفاؤها بوجه خصومها الذين سيصيرون شركاء، وتخوض بوجههم حربها الأشدّ نعومة، لأنّ بقاء الحروب في هذه الجبهات سيمنح الخصوم الشركاء فرص فوز أكيد طالما تدور المواجهات الرئيسية في الملاعب التي تناسبهم وتعطّل فرص أخذهم إلى الملاعب التي تثق واشنطن بتفوّقها فيها، لذلك لا يمكن توقع اكتمال مسارات التسويات التي بدأت بالتفاهم حول الملف النووي الإيراني، وهي تنتقل ولو ببطء إلى حربَيْ اليمن وسورية وليبيا ولاحقاً لبنان، لتشكيل ساحة تناسب الحرب الأشدّ نعومة، من دون تسوية للصراع مع «إسرائيل» بدأت ملامحها بالجسر السعودي الواصل إلى حيفا بعد استرداد جزيرتَيْ تيران وصنافير من مصر، وتحول السعودية شريكاً قانونياً ثالثاً في اتفاقيات كامب ديفيد، وما يتيحه من ميزات جعل «إسرائيل» النافذة الأهمّ على المتوسط لتجارتَي النفط والترانزيت، بخطوط قطارات سريعة من حيفا إلى السعودية، وأنابيب نفط بالعكس، لكن هذا كله يستدعي تسوية تنهي الصراع على جبهات فلسطين وسورية ولبنان لا يمكن أن تغيب عن بال واشنطن، ولا يمكن ألا تكون قد حازت ما تستحق في المباحثات الروسية الأميركية.

– هذا هو التحدّي الذي تريد واشنطن تحويله إلى فرصة، لأنه بحلّ الصراعات التي تشكل «إسرائيل» طرفها المقابل، تسقط القضايا الكبرى من يد خصومها، الذين تكون قد تحالفت معهم في الحرب على الإرهاب وتنوي العودة لتصفية الحساب معهم بعد الفوز بهذه الحرب، والفوز بالتسوية للصراعات التي تمنحهم قوة القضية، فإيران وسورية وحزب الله سيكون حال المواجهة معهم مختلفاً وهم بلا قضية اسمها فلسطين، أو مواجهة الاحتلال والعدوان، وعندها ستكون عناوين ومحاور صناعة السياسة الداخلية لكلّ من خصومها في ساحاتهم بمحاور جديدة تراهن واشنطن على تفوّقها عليهم فيها، محاور الحرية والديمقراطية واقتصاد الاستهلاك، والسلاح الحاسم هو الإعلام وصناعة الرأي العام، وهذا ميدان تفوّقها.

– نقطة الضعف التي تواجهها أميركا في الحروب الدائرة أنها تملك مصادر القوة الافتراضية، وخصومها يمتلكون مصادر قوة الأصول، فهم عدد السكان والمساحة والجيوش المقاتلة والغاز والنفط والصناعة والزراعة، وهي البورصة والمصارف والإعلام والأقمار الصناعية وشبكة الإنترنت وشبكات التواصل. وفي الحرب يربح خصوم واشنطن حيث لا تمتلك قدرة بذل الدم التي يملكونها، وستحوّل واشنطن نقطة الضعف إلى مصدر قوة للحرب الأشدّ نعومة ما بعد التسويات والحرب على الإرهاب، وتضع منذ اليوم عناصر التحدّي للخصوم القدامى والشركاء الجدد، ولا يمكن الفصل بين الإجراءات القاسية التي تتخذها واشنطن في ميادين الحرب الجديدة بحق خصومها ما بعد الغد وشركاء الغد وخصوم الأمس، وبين استعداد واشنطن لحربها القادمة معهم، وهذا ما يفسّر ملاحقة حزب الله مالياً وإعلامياً، وما يفسّر الإجراءات التي لا تقلّ قسوة بحق إيران وسورية.

– المحور الممتدّ من روسيا إلى الصين وإيران وسورية وحزب الله، يحتاج منذ اليوم إلى خطة المواجهة بعد خمس سنوات في ميادين المصارف والفضاء والأقمار الصناعية وشبكات التواصل، وكلها تحت السيطرة الأميركية، وهو فيها ليس أكثر من زبون ينتظر رحمة مالك المنتدى ليمنحه مقعداً شرعياً، ما لم يتحوّل إلى صاحب منتداه الخاص ويمتلك القدرة على التفاوض على المقايضة، فيضع المنع مقابل المنع، ويملك مفاتيح خوض حروب صناعة الرأي العام، والانتخابات المفتوحة للمنافسة، وله مصارفه العملاقة وأقماره الصناعية المتعدّدة، وخوادم المعلوماتية الضخمة، وشبكات تواصل منافسة مع امتلاك عدد سكان هائل ضمن حيّزه الجغرافي.

– تحويل التحدّي إلى فرصة في حلف المواجهة مع واشنطن يضع الجناح اللبناني في الحلف الذي يمثله حزب الله أمام مسؤولية قيادية، ففي الحقلين اللذين يشكلهما الإعلام والمصارف يشكل لبنان القيمة المضافة بين الحلفاء، والقضية ليست قضية حلّ مشكلة حظر «المنار»، بل قضية قيادة حلف كامل من مدار إلى مدار، بإدراك أنّ الساحة العسكرية وبعدها الساحة التفاوضية، لا تملكان فعل الأكثر، وأنّ الأكثر صار يستدعي انتقالاً إلى امتلاك أدوات الحرب الافتراضية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى