منطقة… وأربعة مشاريع
راسم عبيدات
منطقة الشرق الأوسط تعاني حالة من عدم الاستقرار، وهي ساحة للصراع بين أطراف متشابكة ومتعارضة ومتناقضة المصالح والأهداف، كلّ طرف ومن خلفه مروحة واسعة من الحلفاء يريد أن يحفظ مصالحه ويحقق أهدافه، ويقوّي حلفاءه، لكي يكونوا مقرّرين أو على الأقلّ مؤثرين في شؤون المنطقة. أميركا وروسيا بعد استعادة الأخيرة دورها بعد ما سمّي «ثورات الربيع العربي»، هما اللاعبان الأساسيان في رسم خرائط المنطقة وأشكال تحالفاتها ولاعبيها الرئيسيين، استناداً إلى ما يحققه حلفاء كلّ منهما من انتصارات أو إنجازات أو انكسارات وهزائم على الأرض وفي الميدان.
أميركا عندما تسيّدت العالم وأصبحت الشرطي المتحكّم بمقدراته وشؤونه «تثيب» من تشاء و»تعاقب» من تشاء، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكّكه، وجدت أنّ الظرف مؤاتٍ لها كي تقرّر شؤون منطقة الشرق الأوسط وتُحكم سيطرتها عليها، وأن تجعل من حلفائها الاستراتيجيين في المنطقة لاعبين رئيسيين، «إسرائيل» وتركيا والسعودية، في المقابل تعمل على تفكيك حلف ومحور المقاومة أو ما نعتته بـ»محور الشرّ» من روسيا مروراً بإيران وسورية وانتهاء بحزب الله والضاحية الجنوبية وهي سعت ووظفت كلّ إمكانياتها وطاقاتها وجنّدت حلفاءها من أجل تدمير ركائز المشروع القومي العربي، ومنع انبعاثه لمئة عام مقبلة على الأقلّ، حيث جرى احتلال العراق وتفكيك الجيش العراقي وتقسيمه جغرافياً إلى دويلات مذهبية وطائفية، وعندما غرقت أميركا في وحل المستنقعَيْن الأفغاني والعراقي، وجدت أنّ سياسة الحروب الاستباقية قد فشلت في تحقيق أهدافها، ولذلك أخذت بالبحث عن تحقيق أهدافها عبر أدواتها في المنطقة، فعهدت إلى «إسرائيل» بخوض حرب بالوكالة عنها لأول مرة من خلال شنّ حرب عدوانية على حزب الله باعتباره ذراعاً متقدّمة لإيران وحليفاً موثوقاً واستراتيجياً لسورية، ولذلك كانت الحرب العدوانية التي شنّتها «إسرائيل» على المقاومة اللبنانية في تموز 2006 من اجل خلق «شرق أوسط كبير»، تكون لـ»إسرائيل» فيه اليد الطولى مع نفوذ مميّز لتركيا والسعودية، ولكن الفشل «الإسرائيلي» في تلك الحرب، منع ولادة مثل هذا المشروع، ولتأتي لاحقاً ما تسمّى «ثورات الربيع العربي»، وكي يحقق «الإخوان المسلمين» نجاحات لمشروعهم بالسيطرة على السلطة في مصر وتونس، وما عنى ذلك من زيادة نفوذ «الإخوان» في أكثر من بلد عربي وإسلامي وبالذات حركة الإخوان في تركيا والتي تحكم من قبل حزب سياسي إسلامي ــــ إخواني يقوده أردوغان حزب العدالة والتنمية .
وفي سياق تحليلنا لهذه المشاريع، نقول إنّ المشروع الإيراني الآن يحقق نجاحات كبيرة، وإيران استطاعت بفضل صمودها وصلابة قياداتها، أن تتحوّل رقماً صعباً في الصراع الدائر الآن، حيث شنّت عليها أميركا حرباً شاملة من أجل تحطيمها و»تقزيم» طموحاتها وتهميش دورها في المنطقة، فقد تعرّضت لحصار ظالم وعقوبات اقتصادية ومالية وتجارية وسياسية امتدّت لأكثر من 35 عاماً، وسعت واشنطن وبمساندة من أدواتها في المنطقة، «إسرائيل» وتركيا ومشيخات النفط العربي، إلى شيطنة إيران وبث سموم الفتن المذهبية وحرف الصراع عن قواعده وأسسه من صراع عربي ــــ «إسرائيلي» إلى صراع عربي ـــــ فارسي، ناهيك عن السعي الدائم لكسر شوكة حليفها وقاعدتها المتقدّمة في المنطقة حزب الله، عبر الحروب التي شنّتها «إسرائيل» عليه وشيطنته وفرض عقوبات اقتصادية ومالية عليه، ولتصل حدّ اعتباره منظمة «إرهابية»، وكذلك حليفها الاستراتيجي الرئيس الأسد، الذي شنّت عليه حرباً كونية ظالمة، من اجل إسقاطه، ولكن رغم ذلك بقيت حلقات المقاومة متماسكة، حيث أجبر الصمود الإيراني الولايات المتحدة على توقيع الاتفاق النووي معها، وكذلك دعمها عسكرياً ومادياً وسياسياً لسورية، مكّن النظام السوري من الصمود، ودحر قوى العدوان، وأيضاً حليفها الاستراتيجي حزب الله بقي صامداً وشامخاً. كلّ ذلك وسّع دور إيران ونفوذها وحضورها في المنطقة ليطال أكثر من ساحة كاليمن والعراق وفلسطين.
أما المشروع التركي الذي رفع له أردوغان شعار «صفر مشاكل» مع الجيران والمحيط العربي الإسلامي، ونجاحه في تحقيق حالة من النهوض والتطوّر والاستقرار الاقتصادي في تركيا، فقد أعطى ذلك مصداقية كبيرة للمشروع التركي، وضرب نموذجاً إيجابياً عن الإسلام السياسي، ومع قيام ما يُسمّى بـ»الثورات» و»الربيع العربي»، وتحقيق حركة «الإخوان المسلمين» لنجاحات كبيرة عبر السيطرة على السلطة في مصر وتونس، وتعمّق نفوذ «الإخوان» في الكثير من البلدان العربية، فقد أعطى ذلك لأردوغان وحزبه المتماثل مع حركة «الإخوان» والمنخرط فيها، زخماً كبيراً في الداخل التركي وفي العالمين العربي والإسلامي، ولكن مع السقوط المدوّي لـ»الإخوان» في مصر وتونس، والتدخلات السافرة لتركيا في الأزمتين السورية والعراقية والدعم اللامحدود الذي قدّمته للجماعات الإرهابية والتكفيرية «داعش» و»النصرة» في سورية من اجل إسقاط سورية، ونجاح الدولة السورية بجيشها وشعبها في الصمود أمام هذه الغزوة، وتفجر الصراعات بين تركيا والأكراد، وانكشاف حقيقة الدور التركي واصطفافه إلى جانب قوى العدوان على الأمة العربية وأطماعه في الجغرافيا السورية، فقد حرقت أوراق النظام التركي، الذي انتقل من مرحلة «صفر» أعداء إلى «صفر» أصدقاء، وانكفأ الدور التركي وتعرّض النظام إلى عقوبات اقتصادية وتجارية ومالية وسياحية ونفطية روسية، بسببها مجتمعة تراجع دور حزب أردوغان ونفوذه في الداخل التركي، وكذلك تراجع النمو الاقتصادي بشكل كبير، كلّ ذلك أثر على المشروع والدور التركي المربك في المنطقة، وليفشل في أن يحجز له مكانة ودوراً نافذاً ومقرّراً في شؤون المنطقة.
أما المشروع الثالث في المنطقة، فهو المشروع الصهيوني، والذي استفاد كثيراً مما حدث في المنطقة والإقليم، حيث انّ تحطيم الجيوش المركزية الثلاثة العراق، سورية ومصر ودخول المنطقة العربية في حالة من حروب التدمير الذاتي، الحروب المذهبية والطائفية، فقد مكنّا ذلك الاحتلال من الشعور بالأمن والطمأنينة، فلم تعد تلك الجيوش تشكل خطراً على وجوده، ولولا ذلك لما تجرّأ نتنياهو على عقد جلسة لحكومته على أرض الجولان السوري المحتلّ، وكذلك تلك الحروب، المشتركة والمصطفة فيها العديد من البلدان العربية إلى جانب العدو في العدوان على سورية والعراق وحزب الله، وخوف تلك البلدان على عروشها ودورها في المنطقة من إيران وحلفائها، جعلها تتجه إلى إخراج علاقاتها السرية العسكرية والأمنية والاقتصادية والتجارية والدبلوماسية إلى العلن مع «إسرائيل»، معتبرة أنّ صراعها الأساسي مع إيران وليس مع «إسرائيل».
أما المشروع الرابع فهو المشروع العربي القومي الذي ترفع رايته سورية على وجه الخصوص ومعها مروحة واسعة من القوى القومية والتقدّمية والعلمانية العربية. فهذا المشروع يتعرّض للذبح من أكثر من طرف، أميركا والقوى الاستعمارية الغربية والقوى المتطرفة والسلفية العربية والإسلامية ومعتنقي الفكر الوهابي التكفيري، ورغم تعرّض هذا المشروع إلى الكثير من الهزائم، إلا أنّ الصمود السوري وما يشهده العراق وأكثر من بلد عربي من تحوّلات إيجابية، تجعل ممكنات نهوض هذا المشروع كبيرة، وبما يعيد للقومية العربية مكانتها الطبيعية في قلوب ملايين العرب المؤمنين بالفكرة وبوحدة الأمة وأهدافها المتجاوزة للقطرية والتفكيك والتذرير.
السعودية رفعت مشروعاً شعاره «القومية السنية»، هذا المشروع قام على أساس تكتلات وأحلاف عسكرية وأمنية مذهبية ليس من أجل الدفاع عن الأمة وحقوقها وأمنها القومي وتحرير المحتلّ منها، بل جاء لمواجهة المشروع الإيراني في المنطقة، بدلاً من التكامل والتحالف معه، وهذا المشروع الذي تعتمد فيه السعودية على ما تملكه من المليارات، لن يكتب له النجاح كونه مشروعاً فئوياً ومذهبياً، لا يشكل قاعدة للتوحيد والتجميع، ويقوم على فكر إقصائي.
الآن المشروعان الرئيسيان في المنطقة في ظلّ غياب المشروع القومي، الذي يعيش إرهاصات النهوض، فإنّ هناك مشروعين فاعلين في المنطقة لهم الدور والنفوذ والمكانة، المشروع الإيراني المُعبَّر عنه بمروحة واسعة من التحالفات مع قوى ومحور المقاومة والممانعة، والمشروع المتصارع معه والمتمثل بـ»إسرائيل» ومروحة الدول المتحالفة معها عربياً وإسلامياً ودولياً.
Quds.45 gmail.com