«حنظلة» يتمسّك بالجبهة الأولى والأخيرة للمقاومة
عبير حمدان
أن تستحضر ذلك الطفل الذي أدار ظهره لمن شارك المحتل في الخديعة الكبرى باحتفالية من الألوان، فأنت تحتضن صبره وقهره وصموده، وتشدّ على يده الطرّية التي تحمل مفتاح العودة إلى فلسطين. فكيف إذا ما أتى عبوره بين التفاصيل اليومية لأهل المقاومة، بما تختزن ذاكرتهم من الملاحم والتصدّي.
«حنظلة» الذي يقف ثابتاً على أرض صلبة، واثقاً من نبضه، أطلّ على مشارف الزمن الأصعب. وكان الحدث الفني الذي نظّمته «جمعية حواس» بالتعاون مع بلدية حارة حريك، وحمل عنوان «تجلّيات حنظلة»، رأيناه يسترق النظر إلى أطياف مَن عبروا، لعلّه يشكرهم وينتظر بيارق نصرهم. يتمسك بالجبهة الأولى والأخيرة للمقاومة، ويكتب أغنيته على رمال شاطئ حيفا، فيردّد صداه ملح البحر من بيروت إلى حبّة التراب الأخيرة التي قيّدها المحتلّ.
هو يبحث عن طفولته بين الحجارة وينتفض بكل الألوان، يحطّم الأغلال ويدرك أنه كبر كثيراً. لكنه يثق من مقدرته على العودة إلى الجذور. الأرض تسكنه كما المطر وعبق زهر الليمون والزيتون ورائحة الطابون، والكواكب والقمر وأهازيخ القرى.
عشرون فناناً من لبنان وفلسطين استحضروا «حنظلة» كلٌ بحسب رؤيته الخاصة، لكن هذا الطفل الكبير يبقى هو المحور الرئيس والقضية الأساس.
اخبرتنا الفنانة باسمة عطوي التي تولّت تنظيم هذا الحدث الفني عن فكرة المعرض بشكل مختصر ورشيق حيث قالت: معرض «تجلّيات حنظلة» عبارة عن مشاركة أكثر من عشرين فناناً لتقديم حنظلة بعين تشكيلية مختلفة الإيقاعات، بين التجريد والتكعيب والكولاج وغيرها من المواد التي تستنطق حنظلة، ومن خلاله القضية التي حملها ألا وهي فلسطين. كما رافق المعرض عرض فواصل كاريكاتيرية لناجي العلي من إنتاج «الميادين»، كذلك تم توزيع كتاب «أبجدية حنظلة» للكاتب الفنان عبد الحليم حمّود، وهو عبارة عن دراسة فنية في إبداعات ناجي العلي. نضيف إلى ذلك أن المعرض شهد ورش رسم وصلصال ورسم بالحرق على الخشب، لتعريف الطلاب بقضية فلسطين من خلال رمز حنظلة.
لمسنا لدى تانيا النابلسي خرّيجة معهد الفنون الجامعة اللبنانية والآتية من مخيم البداوي الكثير من الحماسة والاندفاع لإيصال اللون والخطوط إلى مدينتها الأمّ نابلس. وعن المعنى الذي يمثله «حنظلة» لها ولكل الفلسطينيين، قالت: بالنسبة إليّ وإلى كل فلسطينيّ، ناجي العلي رمز من رموزنا الوطنية التي لا تغيب عن البال. و«حنظلة» هو الحقيقة التي يعيشها كلّ لاجئ مّنا. هذا الطفل الذي ينظر إلى فلسطين بثقة المصمّم على العودة ليس مجرد رسم على ورق، بل هو انعكاس للواقع الذي يدعونا إلى المشاركة في أيّ عمل يخدم قضيتنا. وكلّ منّا مقاوم من موقعه.
وترى النابلسي أن «حنظلة» طفل كبير جداً بحجم معاناته فتقول: لن أقول إنّ الطفل الفلسطيني الذي رسمه ناجي العلي عمره من عمر النكبة فحسب، بل هو أكبر من ذلك بكثير. كل طفل يولد اليوم في وطني يكبر قبل الآوان، ومن هم في الخارج كحنظلة كبروا مئة سنة وربما أكثر.
وتتحدّث النابلسي عن لوحتها قائلة: اللوحة التي ترينها تعني لي الكثير، إذ وضعت فيها حارة الياسمين من نابلس، ومن الجهة الثانية وضعت قرية الطنطورة وهي قرية والدتي، وهي في قضاء حيفا. وكما نعلم فإن نابلس في الداخل والطنطورة على الساحل، وهنا أكون قد جمعت الجهتين في فلسطين. أضيفي إلى ذلك أن الشهر المقبل يصادف ذكرى مجزرة الطنطورة، لذلك أردت أن أمنحها تكريماً خاصاً. وحنظلة في الوسط يده الممدودة نحو الطنطورة، يمسك بها شقائق النعمان في إشارة إلى الشهداء، ومن جهة نابلس يمسك السكين كرمز للانتفاضة ومفتاح العودة، كما أنني ألبسته الزيّ الفلسطيني الذي يجب أن نحافظ عليه.
أتت رؤية الفنانة الشابة زينب عطوي صادمة بالمعنى الإيجابي للكلمة. فهي اختارت أن توحّد بين الإنسان والأرض بشكل يتفوّق على الريشة واللون، فكانت الحصى مادتها الأساسية. وعن لوحتها تقول: اخترت الحجارة كمادة للوحتي لأن المعرض يتحدّث عن فلسطين المحتلة. وحين نفكر في عبارة الاحتلال أول ما يخطر في بالنا كيفية دفاع أهل الأرض عنها. نراهم أطفال الحجارة، ويصبح الحجر فاعلاً وقادراً على مقارعة أكثر جيوش العالم إجراماً وعنصرية. لذلك ركّزت على الحجر الملتصق بالإنسان بشكل وثيق. فكانت خلفية اللوحة من الحصى التي يقترب لونها من الأرض، ورغم أنّ «حنظلة» ارتدى الحجارة، فإنّني لونتها بالأحمر في إشارة إلى الدماء التي تمتزج بتراب الوطن.
ونسألها لماذا لم تضف اللون الأخضر في إشارة إلى طبيعة فلسطين الخضراء فتجيب: أنا جسّدت واقع فلسطين المحتلة، وأتمنى أن يأتي اليوم الذي نرصف فيه الحجارة كخلفية خضراء ليعود «حنظلة» سعيداً إلى فلسطين المحرّرة، ويبنيها بكل الألوان.
من ناحيته، يرى الفنان ياسر الديراني أن هذا النوع من المعارض يجب أن يتكرّر، إذ إننا بحاجة إلى نهضة ثقافية حقيقية تخدم قضايانا المحقّة وعلى رأسها القضية الفلسطينية. وعن مشاركته يقول: أتشرّف بالمشاركة في هذا الحدث الذي يمثل الفنان الكبير ناجي العلي ورمزية حنظلة. هذا الفنان الذي أعطى للقضية الفلسطينية بقلمه وريشته وكانت أعماله أقوى من الرصاص في وجه العدو الصهيوني. فلا بدّ أن نحْيي ذكرى هذا الرجل المقاوم المبدع . المشاركة تعبير عن قوة هذه الشخصية النادرة. وعلى كلّ شخص مثقف أن يتعامل مع القضية المركزية بمسؤولية لتبقى فلسطين في اللون والكلمة والصورة والخطاب والفعل.
أما عن لوحته فيقول: رسمت اثنين من الكواكب التي تهبط من السماء، وناجي العلي أو «حنظلة» الطفل الذي كانه يمدّ يده إلى الكرة الأرضية ليسحب فلسطين واليد الأخرى يرفعها نحو السماء. لا يمكن الفصل بين الطفل المقيم على الورق وبين الفنان الذي ابتكره. هما الشخص نفسه الذي أداره ظهره لكلّ من تخلّى عنه، وقد يطول الزمن حتى نرى وجهه. «حنظلة» لن يستدير، وسيبقى اتجاه بوصلته مشيراً نحو فلسطين.
يشار إلى أنّ معرض «تجلّيات حنظلة» الذي أقيم في مركز المطالعة والتنشيط الثقافي في حارة حريك اختُتم أمس، وهو كان من تنظيم «جمعية حواس» بالتعاون مع بلدية حارة حريك.