السرد المكثّف يضع الحدث تحت نير «مقصلة الحالم»!

النمسا ـ طلال مرتضى

عتبة: لعلّي لست الكاتب الذي يترك قارئه في متن الحبكة المنتقاة، ويدير له ظهره دونما اكتراث. إذا لم تأخذ تحذيري على محمل الجدّ، فإنك بعد قليل ستقع مخموراً تحت سطوة راوٍ خطير. كن متيقناً أنه لن يوفرك، بل سيزجّ بك عن سابق دراية في ما هو عالق به.

أشيع أنه ممن يمتهنون لعبة السحر، أو شخص غير عادي يزاول عن دراية الطبّ النفسيّ وعلومه.

استهلال: بعيداً عن سلطة النقد التفكيكي وتجلياته. ببساطة، نحن في حضرة مروية هندسية بكل ثيماتها. أي لعبة معادلات. بمعنى رياضي، أن «س» زائد «عين» يساوي بالمطلق المحسوس «عين سين» كبدعة اجترعها الكاتب من لعبة المتاهة، حين رسم داخل مربعنا الكبير «الحياة»، مربعاً أصغر ثم مربعاً داخل آخر ثم آخر. لتجد نفسك بعد برهة مسجوناً داخل نفسك.

الكاتب العليم هو من يجعل القارئ تابعاً عندما يضع الأخير أمام ذاته، ليرى بشكل جليّ كلّ خساراته وتناقضاته وجهاً لوجه من دون مواربة. ليست الحكاية قول ادّعاء، بل لأنه يعرف ـ أي الكاتب ـ وبحسب قوله: أكثر البشر خسارة هم ضحايا التناقضات. ليس فقط تناقضاتهم الداخلية، إنما تناقضات الذين يعيشون معهم. تلك اللحظات التي يحلمون عبرها بالحياة.

بدأت حكاية «خالد» بالانكسار الأول عندما وجد خطيبته في حضن رجل، وهو الجامعي المفتون بأفكار الحرّية التي تتغنى بها الأحزاب السرّية، كمصيدة تبرّر من خلالها غايتها. إذ يقع تحت سطوة رفيقة عاشقة حدّ الثمالة، كيف وهو الخارج تواً من مطبّ أثنى خائنة، جعلته يكفر بالحبّ ويلده كما يكره الأنظمة التي تقمع شعوبها. ليصير معترفاً لعاشقته الجديدة عبر رسالة، أنها ليست إلا نسخة عن سابقتها.

تلك هي «القشة التي قصمت ظهر البعير»، حين وجد نفسه مكبّلاً بجريمة كاملة لم يقترفها. التهمة التي ساقت به إلى معتقل صحراويّ لعشرين سنة بحجّة التحضير لعمليات تخريبية في البلاد.

السؤال الأوحد الذي يعالق المرء في هذه المرحلة، كيف ستمضي هذه السنون؟ ومن هو المستفيد من زجّ «خالد» كلّ هذه المدة، وهو العارف أنه لم يكن ليشكل خطراً ما على أحد من منافسيه.

ثمة حلقة مفقودة ضلّها «خالد»، عندما اعتقد أنّ الحرية الحقيقية هي خارج جدران المعتقل، والذي تماهى مع الحالة إلى أن قضى مدة محكوميته، ليصطدم بواقع أشدّ مرارة في سجن الحياة الكبير، من خلال إعادة إعمار أسئلته السالفة من دون جدوى حصوله على الأجوبة التي تخرجه من دوامة عزلته.

وحده «رداد»، الصديق الصدوق الذي يملك بعض مفاتيح الحكاية، والذي حاول جاهداً إخراج صديقه من عزلته، عبر مدّه بوسائل التقانة التي لم يألفها «خالد» قبلاً كـ«فايسبوك» ووسائط التواصل الاجتماعي الأخرى، والتي كانت سبباً في تعرّفه إلى «سعاد» التي تقيم في بلد بعيد، إذ إنها تركت البلاد قبل عشرين سنة مقابل صفقة زواج تمت بهدوء بينها وبين رجل كان البوابة لها على عالم، مثلما يمنحك المال… يأخذ منك إنسانيتك!

إنه السجن الجديد لـ«خالد» الذي بدء يودّع سجن المعتقل وسنواته السالفات. إنه السجن الأكثر حداثة ـ الافتراضي ـ والذي انفتح عبر نافذة رسائل مكتوبة، تحمل إرثاً لا يستهان به من الكبت بسبب العادات والأعراف التي لم نزل نتغنّى بها. أولها أنّ شرف الأنثى في محافظتها على ما يطلق عليه «غشاء البكارة» الذي لا يساوي بضع دنانير بعدما قام الصينيون بصناعة بديل عنه، والكثير الكثير في ما يخصّ الرجل والمرأة. إلى أن يحوّل الحكاية من طور الرسائل إلى المهاتفة، ثم الدعوة إلى التلاقي لأجل ترجمة الحالة الافتراضية إلى واقع بالقول المحسوس: تعال نترجم كلّ كلمات

الانتظار إلى لغة جديدة لا يعرفها سوانا

لغة قلمها أنت وورقتها أنا

أنا ورقة بيضاء بكر لم تحفل بالحبر.

متن: في «مقصلة الحالم» للروائي جلال برجس، والصادرة عن دار «الأهلية للنشر والتوزيع» عمّان، استطاع الراوي عبر نفاذه الشعري السردي الغلبة على الراوي الذي انسحب ممعناً برفع لغته السردية التي تشعر القارئ بشيء من التململ. والتي أتت على حساب تواتر الأحداث، لكنها جاءت من دون مبالغة متهادية مع عشرين سنة كاملة من الاعتقال التعسفي:

بدت تسريحة شعرها

كقصيدة نثرية

ليس أمامها أيّ عقبات للقول

عيناها اللتان كانتا تبرقان كأنهما كلمتان جميلتان

قيلتا منذ أمد بعيد

وما تزالان تعيدان إنتاج إيقاعهما الجميل

الذي يتكرّس مع الزمن موسيقى أصيلة.

أتت توظيفات الشخوص منسجمة تماماً مع ذاتها، منفتحة المضمرات على كل دوالها من دون تكلّف. وهذا ما فتح للراوي أن يتحكم بكل العلائق التي تحيط به، ليجعل منها جزءاً أصيلاً في مرويته، كالنار والضوء وحفيف الأشجار، كذلك شخصية الذئب التي رافقته طوال المسيرة، والتي لم تكن إلا انعكاساً لصدى صوته الخفيّ.

جلال برجس، راوٍ متأهب على الدوام، لا يتوانى أن يوقعك في مصيدته الغاوية، حين يرى هو أنك ستكون طعماً لغيرك ينجي بك خاتمة قوله.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى