ماذا يمكن أن نفعل لأجل غزة؟
د. إبراهيم علوش
أليس غريباً، لو وضعنا صواريخ المقاومة جانباً، أن تتفجر السيارات والعبوات والأجساد في كل مكانٍ حولنا تقريباً إلاّ في يهود الكيان الصهيوني؟! لكن، من بعد إذن المرحوم نهاد قلعي، إذا أردنا أن نعرف ماذا في غزة يجب أن نعرف ماذا في الدوحة وأنقرة وواشنطن، وإذا أردنا أن نعرف ماذا في نجوع بنغازي وطرابلس والشعانبي وسيدي بلعباس وسيناء والرقة ونينوى وحضرموت وعرسال وغيرها، يجب أن نعرف ما ليس في تل الربيع وعكا وحيفا ويافا والنقب والمستعمرات اليهودية في الضفة الغربية وغور الأردن.
لا شيء مثل تصعيد العمل العسكري عامة، والاستشهادي خاصة، يمكن أن يخفف الضغط الإجرامي الصهيوني عن غزة، ولولا عملية الجرّافة البطولية في القدس التي قام بها الشهيد محمد الجعابيص، وعملية كتائب شهداء الأقصى البطولية في مستعمرة حلميش قرب رام الله، لحقّ السؤال على الفلسطينيين قبل العرب: لماذا تركتم غزة وحيدة؟! فغزة لن ينقذها اللهاث وراء مؤسسات دولية، مثل المحكمة الجنائية الدولية، لم تنصفنا يوماً وكانت دوماً أداةً مسيّسة ضدنا، وتقسيم السودان نموذجاً، إذ تخلى الرئيس الإسلاموي عمر البشير عن جزءٍ كبيرٍ من أراضيه ونفطه، تحت وطأة ابتزازها.
غزة لن تنقذها الشموع ولا الابتهال والتضرع لـ»الرأي العام الدولي»، بل تحتاج قبل كل شيءٍ إلى متفجرات وعمليات استشهادية وغير استشهادية تزلزل الأرض تحت أقدام الكيان الصهيوني، وتنصر مقاومي غزة، وتساهم في تعديل ميزان القوى أكثر لمصلحة المقاومة، من دون السماح بتحوّل ما يسمى «الخط الأخضر» إلى خطٍ أحمر أمام المقاومين.
تحتاج غزة، في المقام الثاني، إلى انتفاضة شعبية فلسطينية عابرةٍ لذا «الخط الأخضر»، وهي الانتفاضة المعتمِلة في الضفة والجليل التي كان قطع الطريق عليها أحد أهداف العدوان الصهيوني على غزة، قبل ما يسمى «وحدة وطنية فلسطينية»، لا يمكن أن تكون وطنية ما دامت لا تقوم على أساس نفي أوسلو والعودة إلى الميثاق الوطني الفلسطيني غير المعدل والعودة إلى نهج المقاومة كبديلٍ من الانخراط في منافسة مع السلطة الفلسطينية على استحواذها…
تحتاج غزة، ثالثاً، إلى حراك شعبي حقيقي داعم للمقاومة ومناهض للتطبيع والمعاهدات مع العدو الصهيوني عربياً وإسلامياً وأممياً، وفي مقدّمها معاهدات كامب ديفيد ووادي عربة واتفاقية أوسلو، وبالأخص مجموعة الاتفاقيات التركية-»الإسرائيلية»، ومنها اتفاقية التجارة الحرة التركية-»الإسرائيلية»، واتفاقية التعاون الثنائي الأمني والعسكري، علماً أن تركيا كانت أول دولة مسلمة تعترف بالكيان الصهيوني وتقيم معه العلاقات الدبلوماسية، التي لا تزال قائمة، وقام عدة مسؤولين أتراك بزيارات للكيان الصهيوني في ظل حكومة العدالة والتنمية «الإخوانية»، ووصل التبادل التجاري بين الكيان الصهيوني وتركيا إلى مستويات قياسية عامي 2013 و2014، ويُتوقع أن يصل مع نهاية هذه السنة إلى 5 مليارات من الدولارات تقزِّم أي تبادل تجاري يبقى مداناً بين الكيان الصهيوني والدول العربية المطبِعة معه، رغم الهراء الخطابي كلّه المناهض لـ»إسرائيل» الذي يطلقه رجب طيب أردوغان هو في حقيقته انتصارٌ للتنظيم الدولي قابل للصرف عبر الماكينة الإعلامية كإصدارات أسهم عربية وإسلامية للاكتتاب السياسي العام.
تحتاج غزة، رابعاً، إلى تصحيح البوصلة السياسية للصراع، على قاعدة: «كل بوصلة لا تتجه إلى القدس مشبوهة». فمن يجعل من العدوان على غزة ذريعةً لمعاداة مصر بدلاً من الكيان الصهيوني يضل كثيراً، ولمن يزعم الضرب بسيف حزب الله هنا نقول إن الحزب والسيد حسن لم يهاجما مصر قط، ومن يقبل تجيير الدم المسفوك في غزة وبطولات المقاومين في بازار المزايدات وجيب المحور القطري-التركي لا يدعم المقاومة ولا غزة، بل يدعم محوراً ضد أخر من الأولى النأي بغزة والمقاومة وفلسطين عن صراعهما. في المقابل، من حقنا أن نطالب النظام المصري بموقف يفصل ما بين علاقة حماس بـ»الإخوان المسلمين»، وعلاقة فلسطين التاريخية والجغرافية-السياسية بمصر، وهي ليست علاقة وجدانية فحسب إنما علاقة يفرضها أمنها الوطني والأمن القومي العربي، كما أن واجب مصر الوطني ألاّ تترك مجالها الحيوي ليملأه منافسوها، سواء من الشرق أو من الغرب، وواجبها على نفسها أن تتعامل مع الخطر الصهيوني كخطر استراتيجي أول يتهددها ويتهدد ألاّ الأمن القومي العربي كلّه، فأصابع الكيان والأميركان ليست ببعيدةٍ عن محاولة تدمير استقرار سائر البلدان العربية ما عدا الكيان الصهيوني، وتشكل استعادة مصر لدورها، وفي مقدّمة دورها التاريخي في غزة، مدخلاً إلى استعادة السيادة المصرية بالكامل على سيناء، وتحرير مصر من قيد معاهدة كامب ديفيد وقيود العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية.
بالعودة إلى العمليات الاستشهادية ضد الذين يحتلون أرضنا وهي وحدها الاستشهادية والبطلة، نذكر بأنها تضرِب نقطة الضعف الأولى لدى العدو الصهيوني وهي العنصر البشري وتساهم في تعديل ميزان القوى مع العدو الصهيوني أكثر من أي سلاح فلسطيني أو عربي آخر، وتفشِل مخططات إخضاع الشعب الفلسطيني السياسية والعسكرية، وتخلِق الشقاق في صفوف العدو أكثر من أي وسيلة «إقناع» أخرى، وتذبذب القوى الساعية إلى توفير مقعد لها إلى مائدة الحلول التسووية إذ تأخذ الصراع إلى أقصى مداه، فالأهمية الأولى لتكتيك القنابل البشرية في فلسطين والدعم الشعبي العربي العارم لها ينبع من تعبيرها عن فهمٍ عميق لطبيعة الصراع على أنه صراع تناحري ضد الوجود اليهودي في فلسطين أساساً، ولا فرق في ذلك بين الذين يسمون «مدنيين» أو عسكريين، فجميعهم غزاة يصب وجودهم بحد ذاته على أرض فلسطين في تحقيق الهدف الاستراتيجي بتهويدها.
القنبلة البشرية إذن هي أرقى حالة أيديولوجية وصل إليها النضال الوطني الفلسطيني منذ أكثر من قرن، وهي وحدها القادرة اليوم، لا على رد كيد الصهاينة عن غزة فحسب، بل على تعرية حقيقة الإرهاب خارج فلسطين.