بين تجميد الصراع وإشعال الجبهات هل لبوتين والأسد رأي آخر!
سومر صالح
كلما اقتربت المشاورات الأميركية الروسية من الوصول إلى تفاهم مشترك على نقاط حساسة في الأزمة السورية، خصوصاً ملف تصنيف الجماعات المسلحة، تزداد نسبة التوتر في العلاقات الأميركية الخليجية من جهة، وتزداد أيضاً حدّة الاستقطاب الخليجي في مواجهة إيران من جهة أخرى، وتحاول تلك الأطراف استغلال ولاء الجماعات المسلحة لها في سورية لنقض التفاهم الأميركي ـ الروسي حول «وقف الأعمال القتالية»، حتى يغدو من الصعب التمييز ما إذا كان خرق الهدنة أتى بطلب أميركي أو بتفلّت خليجي تركي، الأمر الذي سبّب إرباكاً للسياسة الأميركية إقليمياً ودولياً في مواجهة سياسة روسية منضبطة وغامضة، سواء ميدانياً في سورية أو في علاقتها مع الولايات المتحدة…
ارتباك أميركي كبير انعكس في تقدير طبيعة المعركة المقبلة في حلب من حيث أطرافها على الأرض وحجم زخمها العسكري وإمكانية توسعها إقليمياً، وتخوّف من تداعياتها على مجمل الصراع في سورية، بل وعلى ترتيب النسق الدولي العتيد الذي أوعز الرئيس بوتين إلى وزير خارجيته ببناء عقيدة جديدة قائمة على هيكل متعدد الأقطاب ، قابلته ـ أيّ الارتباك ـ محاولة أميركية لتهدئة الأمور مع روسيا، بل ولتبرير التحشيد في حلب أحياناً أخرى، وهنا الكلام للوزير كيري، مع ضغط أميركي لا بأس به لترويض الإقليم المحيط بالأزمة، للحيلولة دون وقوع المحظور في سورية خصوصاً بين الأميركي والروسي.
طبعاً لا يُقصد بما سبق تصوير السياسة الأميركية على أنها عقلانية تريد أن تنتج حلاً مستقراً للأزمة السورية، بل على العكس تماماً، دأبت الولايات المتحدة منذ إعلان ميونيخ الصادر في 11 شباط الماضي على الدفع باتجاه تحويل روسيا لطرف في النزاع الدائر في سورية، بحيث يصبح معه الخروج الروسي من سورية شرطاً لازماً لإنتاج الحلّ، ولكن بخلاف المشيئة الأميركية تلك، أجهض بوتين كلّ التوقعات الأميركية بإعلانه السياسي سحب جزء من قوته الاستراتيجية من سورية، ونعتقد هنا بأنّ الخرق الكبير الذي حدث في أرياف حلب واللاذقية وحمص بتاريخي 9/3 و2/4/2016 أتى ضمن توافق إقليمي خليجي تركي «إسرائيلي» لخرق الهدنة والضغط على الأميركي الذي بدأ ينحاز إلى وجهة نظر روسيا في طبيعة وشكل الحلّ في سورية.
من هنا نفهم التريّث السوري مع باقي الحلفاء خصوصاً إيران وروسيا في فتح أبواب جهنمّ على المسلحين في حلب، والذين أيّ الحلفاء ما لبثوا يعدّون كل العدّة لفتحها إذا ما فشلت الولايات المتحدة في الوفاء بالتزاماتها وتفاهماتها مع موسكو، بعد تقديم هذه القراءة لما حدث من خرق كبير للهدنة، وتريث ذي دلالة لسورية وحلفائها، نجدها ضرورية لفهم تطورات الموقف الأميركي الأخير، فالإدارة الأميركية تجد نفسها بين خيارات ثلاثة صعبة: إما بلورة تفاهم أميركي روسي واضح حول سورية يراعي مصالحها على حساب مصالح حلفائها الإقليميين وتتخذه سلاحاً في مواجهة التمرد الإقليميّ على سياساتها، بل ومصالحها، وهذا الخيار صعب وله محاذير جانبية على علاقة الولايات المتحدة مع حلفائها، الذين سيستشعرون الخطر حال التوافق الأميركي الروسي على حساب مصالح الحلفاء. الخيار الثاني استخدام ذلك التمرد الإقليمي كقوة دافعة لها في مواجهة السياسية الروسية وطموحاتها في بناء عالم متعدد الأقطاب على حسابها، وهذا الخيار يعني فتح مواجهة مع روسيا وإيران معلومة بداياتها ومجهولة مآلاتها في وضع اقتصادي أميركي متدهور، وقوة روسية مقبولة تتيح لها المضيّ قدماً في مثل هكذا مواجهة. أما الخيار الثالث فهو تجميد الصراع على وضعه وترحيل الحلّ إلى إدارة أميركية جديدة في ظروف دولية وإقليمية أكثر استقراراً، وهو على ما يبدو الخيار الأميركي الأكثر رجحاناً إلى الآن، أمام عدم إمكانية الانتقال الأميركي إلى أيّ خطة ب تحتاج إلى أشهر لإنضاجها، ولا يسمح الظرف الانتخابي الأميركي الحالي بها…
فبادرت الإدارة الأميركية إلى طرح رؤية أميركية جديدة للوضع في سورية، تقوم على تثبيت خط الهدنة كما كان في ليلة 27/2/2016، ليلة استصدار القرار 2268، باعتباره خطاً دائماً لوقف إطلاق النار مع إيجاد آلية فعّالة أميركية ـ روسية مشتركة من أجل ضمان عدم الخرق وعلى مدار الـ24 ساعة، مقابل تعهّد روسيا بعدم إعلان العودة إلى سورية عسكرياً وسحب قواتها المتواجدة في حلب وهنا ادّعاء أميركي ، وهذا الأمر يسري على الولايات المتحدة ذاتها التي ستتعهّد بعدم التدخل العسكري لمصلحة المعارضات المحسوبة عليها، وفي هذا الشأن قال كيري: «اقترحنا وضع خط فاصل معناه أنكم لا تذهبون إلى هنا ونحن لا نذهب إلى هناك، أما في ما بينهما فسيكون اللعب نزيهاً… وفي ما يتعلق بالشق الثاني من التصريح اللعب النزيه كأنّ كيري أراد مخاطبة بوتين لإخراج الصراع السوري أيضاً من أيدي الأطراف الإقليمية بتعهّد متبادل… مقابل إطلاق يد الجيش السوري للقضاء على تنظيم «جبهة النصرة» الإرهابي حيث قال كيري: إنّ المنطقة أي حلب أصبحت معقلاً لتنظيم «جبهة النصرة» الإرهابي المتصل بتنظيم «القاعدة». طبعاً المكسب الأميركي الوحيد في هذا الاتجاه هو تجنّب المواجهة الأميركية مع روسيا من جهة، أو الصدام الأميركي مع حلفاء الولايات المتحدة من جهة ثانية، إضافةً إلى أنّ الاتفاق الروسي الأميركي على هذه الخطة ولو تمّ تعديل بعضها من قبل روسيا تتيح للولايات المتحدة أداة ضغط على حلفائها وتمنعهم من ممارسة سياسات متهوّرة عبر استصدار قرار من الأمم المتحدة على شاكلة القرار 2268 ملزم للأطراف الدولية والإقليمية… إذاً الكرة الآن في الملعب الروسي ـ السوري للموافقة أو رفض الخطة الأميركية أو تعديلها، وأمام هذا المأزق الأميركي والتخيير الصعب، اتجهت الإدارتان الروسية والسورية إلى دراسة الموقف، فأعلنت الخارجية الروسية أنها «ستدرس أفكار الجانب الأميركي الهادفة إلى تعزيز نظام الهدنة في سورية»، وهذا يدلّ على تقبل روسيّ مبدئي لمبدأ الخطة الأميركية، ولكن من المتوقع إجراء تعديلات مهمة على جوهر الخطة الأميركية تقضي بإيجاد آلية صارمة لمحاسبة كلّ من ينقض الهدنة في سورية، مع إمكانية الردّ الأحادي الروسي ـ السوري على أيّ خرق إنْ اقتضى الأمر. ومن المتوقع أيضاً أن يكون هنالك طلب روسيّ بكسر أممي لاحتكار «وفد الرياض» باعتباره القوة الرئيسية في المعارضة، على حساب إيجاد صيغة إقليمية لوفد واسع التمثيل لكلّ المعارضات السورية.. ولعلها الفرصة الأخيرة التي ستُمنح لإدارة الرئيس أوباما للخروج من مآزقها الإقليمية وارتباك سياستها الدولية، وإلا فالمواجهة في الميدان «لن تستثني أحداً» وستكون خياراً مطروحاً لا تخشاه القيادتان السورية والروسية وإنْ رغبتا بتجنّبه حفاظاً على مسار الحلّ السياسي، فسياسة الاستنزاف لن يُسمح باستمرارها إلى ما لا نهاية… من هنا تبقى كلّ الأمور معلقة إلى حين اجتماع مجموعة الدعم الدولي حول سورية ISSG والمرتقبة خلال أسبوع في نيويورك، والتي من المتوقع أن تتخذ أحد سيناريوين: الأول أن تكون المشاورات الأميركية الروسية حول مبادرة كيري قد وصلت إلى نتيجة مشتركة أو تبلورت رؤية أخرى خلال هذا الأسبوع نتيجة المشاورات، ومعها يكون اجتماع المجموعة الدولية مسرحاً مناسباً لإظهارها بل فرضها على المجتمعين مع إمكانية مراعاة بعض الهوامش الإقليمية، والسيناريو الثاني أن تكون المنصة ذاتها منبراً لنعي اتفاق «وقف الأعمال القتالية» الذي دخل في مرحلة الاحتضار قبل الموت، وتدشيناً لجولة ميدانية حاسمة ومفصلية، ولكنها ومن خلال مشهد حجم الإمداد اللوجستي لأطراف الصراع في سورية تبدو طويلة ومؤلمة.. ومع التأكيد أيضاً على أنّ عدم اجتماع المجموعة الدولية سيعني تحوّلاً دراماتيكياً نحو المواجهة في الميدان ونعياً مسبقاً لإعلان وقف الأعمال القتالية والمكرس بالقرار 2268 …
إذاً هو أسبوع حاسم سيشهد مشاورات أميركية وروسية مكثفة مع استخدام أقصى درجات الضغط والمساومة المتاحة لإنجاز وبلورة تفاهم مشترك، ومن المتوقع أن يشهد محاولات تركية خليجية لإجهاضه أيضاً فإلى ماذا ستفضي هذه المشاورات؟ يبقى الجواب مرتقباً في النص العتيد لبيان المجموعة الدولية حول سورية، أو عدمه! والى موعد الاجتماع، يبقى الجيش العربي السوري متأهّباً كما العادة لصدّ كلّ هجمات المسلحين التي تعدّ الأعنف منذ إعلان «وقف الأعمال القتالية»، خاصة في جبهتي حلب وسهل الغاب.