تقرير
في مقاله لمجلة «فورين آفيرز» الأميركية، تناول الكاتب مايكل وحيد حنا قضية جزيرتَي تيران وصنافير التي أثارت الكثير من الجدل مؤخراً، كما عرض تاريخ النزاع على تلكما الجزيرتين، وكذلك حالة الغضب الشعبي التي كانت بمثابة تغير كبير في الإطار السياسي العام، وكذلك التغيرات الإقليمية، خصوصاً ما يتعلق بسياسات «إسرائيل» التي يمكن قراءتها من خلال المشهد الأخير.
في 10 نيسان الجاري، أعلنت مصر نقل السيطرة على جزيرتَي تيران وصنافير الواقعتين في البحر الأحمر إلى السيادة السعودية بعد عقود طويلة من النزاع عليهما، وهو ما أثار ردود الفعل الغاضبة في أنحاء البلاد. بحسب التقرير، فقد غطت حالة الغضب تلك على بعض الحقائق الإقليمية والمحلية حول عملية التنازل عن الجزيرتين، وهي أن المطالبات السعودية بحق السيطرة على الجزيرتين ليست أمراً غير معقول أو لا أساس له من الصحة، وأن النظام المصري يمر بحالة عدم استقرار، بينما يحاول تحقيق التوازن بين الحالة الشعبية والمصالح الدولية، كذلك لا يمكن إغفال الأهمية الكبرى لهذا الاتفاق وما يعنيه بالنسبة إلى «إسرائيل» والسعودية.
تاريخ النزاع على الجزيرتين
يعرض التقرير بدايةً نظرة تاريخية حول تبعية الجزيرتين بداية من عام 1906، حين قامت مصر ـ الخاضعة للاحتلال البريطاني في ذلك الوقت ـ باحتلال الجزيرتين لتقوية موقفها على الأرض قبل ترسيم حدودها الشرقية مع المملكة العثمانية في وقتٍ لاحقٍ من السنة نفسها. وعلى رغم أن مصر نالت استقلالها رسمياً عام 1922، احتفظت بريطانيا بحق الحماية على مستعمرتها السابقة، واستخدمتها كقاعدة لها خلال الحرب العالمية الثانية، كما لم تعترف بريطانيا على الإطلاق بعد ذلك بترسيم الحدود البحرية لمصر، ومن ضمنها الجزيرتين. في ظل كل تلك الظروف، بقي الوضع القانوني للجزيرتين أمراً غير واضح حتى عام 1949.
وبعد سلسلة من الأحداث بين عامَي 1949 و1950، ظهرت مطالبات سعودية قوية بالسيطرة على الجزر. ففي آذار 1949، استولت «إسرائيل» على مدينة أم الرشراش «عُرِفت لاحقاً بِاسم إيلات»، وهي مدينة تقع بين مصر والسعودية في الجهة المقابلة للجزيرتين من خليج العقبة. بعد تلك الواقعة، وخوفاً من النوايا «الإسرائيلية»، طلبت السعودية أن تسيطر القوات المصرية على الجزيرتين، وذلك في محاولة لمنع مرور السفن «الإسرائيلية» في مضيق تيران.
في كتابه «دول الشرق الأوسط وقانون البحر»، يؤكد الكاتب علي الحكيم أن الاتفاقية المصرية ـ السعودية في ذلك الوقت قد أرسلت إلى دول أخرى من خلال مذكرة تفصيلية أعدّتها مصر عام 1950، وأن تلك المذكرة قد نصّت على التالي: «الحكومة المصرية تعمل بتنسيق وتوافق تاميَن مع الحكومة السعودية التي طلبت منها السيطرة على الجزيرتين بشكل فعال، وأن هذه السيطرة ليست أمراً واقعاً».
ويشير الكاتب أنه خلال عهد الرئيس جمال عبد الناصر، تدهورت العلاقات بين مصر والسعودية وظهرت الخلافات من جديد حول حق السيادة على هاتين الجزيرتين، مع زعم من كلتا الدولتين بأحقية السيطرة عليها. وخلال جلسة لمجلس الأمن عام 1954، زعمت مصر ملكيتها لتلكما الجزيرتين، ولكن الجزء الأهم أيضاً جاء لاحقاً، وهو صمتها في ما بعد عندما أكدت المملكة سيادتها على تلك المنطقة عام 1957.
يرى التقرير أن حالة التناقض تلك قد أضعفت موقف مصر في القضية. وبعد حرب 1967، تمكنت «إسرائيل» من احتلال الجزيرتين، قبل أن تُعادا مجدداً إلى مصر عام 1982 كجزء من اتفاقية السلام التي وُقّعت عام 1979، حيث تم تصنيف المنطقة بحسب الاتفاقية كمنطقة ج ، وهو التصنيف الذي يعني تمركز قوات الأمم المتحدة والشرطة المدنية المصرية فقط فيها.
وفي مراسلات رسمية بين وزيري الخارجية المصري أحمد عصمت عبد المجيد، والسعودي سعود الفيصل، طلبت القاهرة من الرياض تأجيل مناقشات ملكية الجزيرتين إلى ما بعد الانسحاب «الإسرائيلي» الكامل من الأراضي المصرية وفق معاهدة السلام.
غضب شعبي
يرى التقرير أن هذا الجدل القانوني والتاريخي قد غاب عن المشهد لفرط القومية، والاستياء المصري من ثروات الخليج، على رغم أن ذلك النزاع والنقاش ممتد منذ فترات بعيدة بين القاهرة والرياض، وحتى في تموز 2015، أشار بيان صادر من القاهرة حول اتفاقيات التعاون الاقتصادي والعسكري المشتركة لتعزيز التعاون بين البلدين، إلى أن تعريف الحدود البحرية هو أحد أهم مجالات التعاون.
في الوقت نفسه، رأى الكثير من المصريين أن التنازل عن الجزيرتين يظهر حالة ضعف الدولة واعتماديتها على السعودية، خصوصاً مع تزامن ذلك التنازل مع اتفاقيات لتقديم المساعدات من جانب الرياض أظهرت مصر في مظهر الفقير الذي يبحث عن بعض المعونات الملكية. لهذه الأسباب، كان القرار ذا تكلفة سياسية كبرى، حيث تواصلت لحظات الإحباط التي أصبحت أمراً متكرراً في مصر منذ سقوط نظام مبارك في 2011.
وفي وقت كانت هناك بعض المزاعم في عهد الرئيس المعزول محمد مرسي بأنه ينوي منح شبه جزيرة سيناء للفلسطينيين، ومنطقة قناة السويس لقطر، ومثلث حلايب للسودان، واتهامه بشكل مباشر بالتآمر على البلاد، كان لتلك المزاعم أثرٌ كبيرٌ في إطاحة نظام الإخوان المسلمين من الحكم. بناءً على هذه المخاوف، وُضِع بند صريح في الدستور المصري الصادر عام 2014 ينص على وجوب الدعوة إلأى استفتاء شعبي حول الاتفاقات التي تتعلق بحقوق السيادة.
أشار التقرير أيضاً إلى حالة الغضب التي تسبب فيها نقل السيطرة على الجزيرتين إلى السعودية، خصوصاً على وسائل التواصل الاجتماعي من قبل شخصيات بارزة، إلى جانب قيام بعض المحامين بتحريك دعاوى قضائية ضد القرار استناداً على النصّ الدستوري المذكور سلفاً، فيما ازدادت حدة الغضب بعد ذلك مع انتشار تقارير صحافية تؤكد قيام مصر بإبلاغ الولايات المتحدة و«إسرائيل» في شأن القرار قبل الإعلان الرسمي عنه.
يرى الكاتب أن الأمر الذي يجب أن يثير قلق النظام ظهور انتقادات من بعض مؤيدي النظام والقوميين، مثل تهاني الجبالي «نائب رئيس المحكمة الدستورية العليا سابقاً، وأحد أبرز الداعمين للنظام العسكري المصري»، والتي أعربت عن شكّها في القرار وفي الطريقة التي صدر بها. كما يضيف الكاتب أن عدم تشاور السيسي حول الأمر يظهر أنه إما قد فقد الاتصال بالشعب، وإما أنه كان متأكداً من هذه المعارضة القوية للقرار، وأن الأمر قد يصبح مستحيلاً بتلك الصورة، في وقت يحتاج بشدة إلى التقارب مع السعودية في ظل الكارثة الاقتصادية التي تمر بها البلاد حالياً، على رغم الدعم المادي الكبير الذي حصل عليه من دول الخليج «بلغت قيمته 30 بليون دولار بنهاية 2015» إضافة إلى الدعم الدبلوماسي.
يذكر التقرير أيضاً وجود خلاف بين مصر والسعودية من قبل في ما يتعلق بالأولويات والتطلعات الإقليمية، وهو ما ظهر في رفض مصر المشاركة بقوات برية تدعيماً للحملة العسكرية التي تقودها السعودية في اليمن، وهو ما لم يختلف كثيراً في سورية، والتي اختارت مصر في حالتها الوقوف إلى الجانب الروسي ودعم الأسد، وهو ما يمثل اختلافاً واضحاً عن الرؤية السعودية. لهذه الأسباب، ربما كان الدافع الرئيس للقرار الأخير سعي السيسي إلى تحقيق التوافق من خلال إظهار حسن نيّته.
يعتقد الكاتب أن السؤال الرئيس الذي يواجه نظام السيسي حالياً، مدى حالة الاستياء الحالية لدى الرأي العام، والتي وصلت هذه المرة إلى جانب من حلفائه القوميين، ولم يتوقف الأمر عند المعارضين فحسب، وأن حالة الاستياء هذه المرة تأتي على خلفية الفشل المتكرر للحكومة في كسب ثقة الشعب في الكثير من الجوانب، إلا أنه يرى أيضاً أن الأمر لن يكون مؤثراً بشكل كبير في استقرار النظام، بالنظر إلى حقيقة هدوء اعتراضات القوميين خوفاً من أن يساهم الأمر في تعزيز وضع خصومهم من الإخوان ونشطاء المعارضة.
هل يفجّر البرلمان المفاجأة؟
يشير الكاتب أيضاً إلى أن قرار الجزيرتين سيتم عرضه على البرلمان للمراجعة والتصديق على ترسيم الحدود البحرية، فيما لا يبدو أن تلك العملية ستتم بسهولة مع وجود بعض البرلمانيين والأحزاب التي تعارض القرار. وعلى رغم أن القرار سيكون بتمرير ترسيم الحدود على الأغلب، إلا أن حجم المعارضة البرلمانية سيمثل مؤشراً هاماً لحجم المعارضة بين داعمي النظام، وربما يكون الأمر بمثابة انتكاسة وتراجع كبيرين للسيسي في حالة عدم موافقة البرلمان.
حتى اليوم، دائماً ما كانت اتجاهات النخبة في صالح النظام، وهو ما يرجع بالأساس إلى حالة الحذر التي تكونت نتيجة الاضطرابات خلال فترة ما بعد سقوط نظام مبارك، والتدهور الأمني الإقليمي، والرغبة الحقيقية في منع قيام انتفاضات أخرى، في الوقت الذي يعد فيه المصدر الرئيسي لاستقرار النظام هو القبضة الأمنية التي يفرضها حتى الآن، إلا أن التقرير يرى وجود جانب من الرفض لدى المؤسسات الأمنية حول قرار التنازل عن الجزيرتين على غرار تناقض الأمر مع الطرح الوطني والقومي الذي يقدمه النظام، في الوقت الذي لن تقود فيه تلك الاحتجاجات لقرار سياسي حقيقي، خصوصاً مع قوة الروابط بين القيادات العليا للقوات المسلحة، والرئيس.
اتجاهات «إسرائيلية» جديدة
أشار التقرير أيضاً إلى تصريح وزير الدفاع «الإسرائيلي» موشيه يعالون، والذي أكد أن الاتفاق قد تم التوصل له بعد تشاور بين الجهات الأربعة: مصر والسعودية و«إسرائيل» والولايات المتحدة، لنقل السيطرة على الجزيرتين، وأن الأمر كان مشروطاً بالتزام السعودية بمعاهدة السلام بين «إسرائيل» ومصر. في وقت أكدت السعودية أنها تلتزم بجميع الاتفاقات والمعاهدات الدولية التي وقّعتها مصر في شأن تلكما الجزيرتين، وأنها لن تجري أي تواصل مباشر أو علاقات مع «إسرائيل»، على رغم أن التوقعات تشير إلى أن التوافق «الإسرائيلي» حول الأمر نابع من تعهدات مكتوبة من السعودية بألا يؤثر الأمر في حرية الملاحة «الإسرائيلية» عبر مضيق تيران، وهو ما يعكس مزيداً من التقارب بين «إسرائيل» والسعودية في المنطقة، والذي يتضح في رفض كليهما لإيران.
يرى الكاتب أيضاً أن الصمت «الإسرائيلي» النسبي حول الأمر يمثل تطوّراً لتعاملاتهم في قضايا المنطقة وما يتعلق باتفاقية السلام، بعدما كانت المخاوف التي تتعلق بتغيير قواعد الاتفاقية أمراً مسيطراً على التوجه «الإسرائيلي» في السابق، في حين أن هذا التغير يمكن رصده أيضاً من خلال المرونة التي أظهرتها في ما يتعلق بالسماح لمصر بنشر المزيد من قوات الجيش على أراضي سيناء.
على رغم ذلك، فإن تلك التغيرات والتحولات تخضع لضوابط وحدود معينة، وأن التحالفات الإقليمية الرئيسة ضد إيران تظل في صورة غير مباشرة، ويرى الكاتب أن القضية الفلسطينية ـ التي تعدّ محورية بالنسبة إلى العالم العربي ـ ستظل عقبة كبرى أمام تحقيق أي تقارب حقيقي وملموس مع «إسرائيل» في المنطقة، فيما يعود الكاتب للتأكيد على أنه ربما تكون خطوة نقل السيطرة على الجزيرتين ليست تنازلاً كبيراً من الجانب المصري من الناحية القانونية، إلا أنها كانت خطوة غير متوقعة وأثّرت بشكل كبير في السياسات المحلية والإقليمية، وكشفت الكثير من الحقائق الكامنة على الصعيدين.