جريمةٌ مزدوجة
احتاجت أن تناديه مرّاتٍ عدّة كي تستحضر انتباهه. لم يكن منشغلاً بالحديث مع أحد أو حتّى بالنظر إلى شخصٍ آخر. كان يجلس قبالتها إلى طاولةٍ في أحد المطاعم الفاخرة التي اعتاد اصطحابها إليها، وما من طرفٍ ثالث، أو على الأقل جسدٍ ثالثٍ يشاركهما أمسيتهما. لو كانت تعرفه حقّ معرفةٍ، لأدركت أنّها حتى ولو كانت قد حملت حقيبتها وغادرت المكان، ما كان ليشعر برحيلها، بل لربما بقي قابعاً في مكانه إلى أن يأتي النادل ويطلب منه تسديد فاتورة العشاء كإشارةٍ مهذّبة يطلب فيها منه المغادرة وقد حان وقت إقفال المكان. ولكن، كيف لمن لا يشعر بوجود الآخرين حوله أن يلاحظ غيابهم؟
كانت عيناه متجهتين نحوها مباشرةً، لا بل تحدّقان في مقلتيها، ولكنه لم يكن يراها. لم يكن ينظر إليها بل عبرها. بادلته نظراته تلك بابتسامةٍ مصطنعةٍ وارتشفت القليل من الماء من كأس بلوريّة يفضح تعرّقُها برودة ما فيه. ليتهما كانا من السوائل أيضاً، لربما حينذاك تدرك أنّهما غير متجانسين وما من تفاعل كيميائي يمكن أن يجمعهما فيولّد حرارة الشغف. وهنا تكمن مشكلتنا الكبرى، فنحن لا نعرف إلّا ما نرى، وقلوبنا المسكينة ضريرةٌ لا عيون لها. تحلّل أدّمغتُنا الصوَر التي تلتقطها الكاميرات الموجودة بين أجفاننا بكثيرٍ من السذاجة. وبناءً على دراساتٍ سطحية لا تسبر أغوار الأمور، نمضي أيامنا ونحدّد خياراتنا.
أمّا تلك الحرارة التي لا تستطيع قلوبنا أن تكتمها بين جدرانها لحظة نلتقي من يشعل أحاسيسنا حبّاً ولهفةً. فلا لون أو شكل لها يخوّلانها اختراق حسابات المصابين بقصر الشعور وعمى القلوب.
لم تكن كثافة ما وضعته من مساحيق تجميل على وجهها أو بريق عقدها الماسيّ ما حجبها عن بصره. قد يكون اختياره لها أو نجاحه في الإيقاع بها مخطّطاً رأى فيه ضمانةً لمستقبل شابٍ، لديه من المؤهلات ما يكفيه ليصل إلى التصفيات النهائية في مباراةٍ يفوز بها الأكثر مالاً وجاهاً، ولديه من الطمع ما يكفي لجعله لا يرضى إلّا بالمركز الأول ولا شيء دونه. وثمن ذلك كمّ إحساسه وخذلان فتاةٍ أحبته وأحبها، ولكنّها لم تكن بالبريق الكافي لجعله يريدها ولكن حبها كان بالعمق الكافي لجعلها عصيّة على النسيان.
لا يحتاج إقفال عينيه كي يتخيّلها، فقد كان يرى ملامحها في كل الوجوه، ويسمع صوتها في كل الكلام، ويشمّ عطرها في كل نفَسِ يدخل رئتيه ليجاور فؤاداً لم تستطع تلك الجالسة وفرو الثعالب على كتفيها أن تدخله. مهما ارتفعت أسعار الأثواب التي تستر أجسادنا، يصعب عليها أن تستر عراء أرواحنا. ربما الطريق إلى القلوب لم يعبّد بإسفلت يليق بعجلات السيارات الحديثة ولم تغطيه أفخر أنواع السجّاد العجمي التي لا تقبل أن تدوسها سوى أحذية لم يطأها غبار أو كعوب شاهقة الارتفاع.
لكن، ولكي يستمتع القدر أكثر بسخريته منّا، تكون الأقدام الحافية الأسرع وصولاً إلا القلوب والأكثر رشاقةً في مجاراة إيقاعات المشاعر.
ليت بشاعة تلك الصفقات العاطفية تتوقّف عند أطباق كذبٍ يتناولاها أثناء دعوة عشاءٍ أو كلمات نفاقٍ ينطق بها أثناء محادثةٍ هاتفيةٍ. جريمته تتعدّى طاولةً في مطعمٍ إلى سريرٍ في غرفةٍ تشهد جدرانها أقسى أنواع الاستغلال الذي يخترق الجيوب ليصل الأجساد.
وبينما المسكينة الأولى تحضّر نفسها أمام مرآةٍ تضحك لسذاجةٍ من تقف أمامها، ينسحب حضرته إلى الغرفة المجاورة ليأخذ جرعةً من الحياة. وبكلّ حقارةٍ، يتصل بالمسكينة الثانية، فهي الوحيدة التي يمكن لها أن تمدّه بالنبضات. ما طال رنين الهاتف ليقطعه صوت فتاةٍ أثر البكاء جليٌّ في نغماته. وما هي إلّا بضع ثوانٍ لا تكفي لما في جعبتها من كلمات عتبٍ فيها امتدادٌ لدموعٍ تذرفها لغياب حبيبٍ اختفى بين ليلةٍ وضحاها، حتى يسكتُها بقوله: «لن أحبَّ سواك يوماً، ولن أكفّ عن الإشتياق إليك عمراً».
وقبل أن ينهي كلمته الأخيرة، تدخل الأولى وقد هيّأت نفسها كنعجةٍ تزيّنت قبل الذبح. يقفل الهاتف على عجل تاركاً الثانية سجينةً في قفصٍ لا قضبان له، ويرافق الأولى إلى قفصٍ آخر اختار هو رقمه وشريكته فيه.هكذا يمكن لرجلٍ أن ينكّل بجثتين في آنٍ، إنّما في ساحتين مختلفين، إحداهما فؤاد بعيدةٍ والأخرى جسد قريبة. ويبقى قمرٌ أخرسٌ قابعٌ في كبد الظلام الشاهد الوحيد على جريمةٍ تُرتكب بهدوءٍ باردٍ بعد منتصف الليل.
آلاء ترشيشي