يوم غنّت الأسطورة صباح في فرنسا وبلجيكا… سحرت الغرب وأزعجت الصهاينة
جهاد أيوب
عام 1969، غنّت الأسطورة صباح على أهمّ مسارح فرنسا وبلجيكا. في فرنسا كانت حفلة واحدة على أشهر المسارح في اوروبا وهو «أولمبياد». وصلت صباح قبل خمسة أيام إلى باريس، فيما وصلت الفرقة المؤلفة من 70 راقصاً وراقصة قبل يوم واحد من الحفل. مدير فندق «جورج الخامس» لامبير أصرّ أن تكون صباح نزيلته، وهو من المعجبين بفنّها حتى الجنون.
يوم الإعلان عن الحفل أخذت الصحف التابعة للصهاينة هناك الاستخفاف بقدرة فنّ صباح والفنّ العربي، وشنّ الهجوم على صباح، والبعض كتبوا يجرّحون بها وبالعرب، وبأنهم رعاع لا حضارة لديهم، ولا يزالون يرعون الجمال. وقد وصلت هذه التعليقات والمقالات إلى صباح التي أصرّت أن تكون مختلفة، وقرّرت أن تلقّن الصهاينة درساً في أصول الفنّ والحضور والغناء.
أذكر السيدة صباح عندما قالت لي عن تلك الحفلة: أنا المطربة اللبنانية الأولى التي غنت على مسرح أولمبياد والعربية الثانية بعد أمّ كلثوم. حفلتي حارَبَتْها الصهيونية من خلال شراء ذمم بعض الصحافيين في باريس، استخفوا بنا، واعتقدوا أن صباح مجرّد مغنية. وهذا أوجد الفضول لدى الباريسيين كي يشاهدونا ويستمعوا إلينا. وبعد نجاح الحفل الأسطوري، وبعدما «عقّدتهم وجنّنتهم»، طلبوا منّي تنفيذ عشرات الحفلات، ووضعوا أمامي الشروط المالية والفنية المفتوحة، واستمرّوا في الاتصال بي لعشرات السنين كي أحيي حفلاتي هناك. لكن الظروف اختلفت، ولم يعد طموحي أن أغنّي هناك… أذكر أنّ همّتي يوم الحفلة كانت كالطائر، وغنّيت كما لم أغنِّ من قبل. النور خرج من صوتي لأنني كنت أتحدّى من يتحدّانا، وفعلاً صفّق الجمهور الباريسي المبهور بي وبالفرقة والفنّ اللبناني العربي الأصيل بطريقة مختلفة تدلّ على الاحترام والدهشة.
وأخبرتني السيدة صباح أيضاً أن غالبية الصحافيين الفرنسيين أجروا معها قبل الحفل حوارات استفزازية. وحينما سألها أحد الصحافيين عن اللافتات التي علّقها، ويرفعها بعض الصهاينة أمام المسرح ضدّها وضدّ الفنّ اللبناني العربي، رافضين أن تغنّي على أهم مسارح أوروبا، قالت مبتسمة: عقولهم ناقصة، ومن غنّى في بعلبك يسهل عليه الغناء في الفضاء. ذُهل الصحافي من ردّ صباح البارد، فعاود وسألها مشيراً إلى أن الجمهور الباريسي ينتظرها بشغف، ولديه الفضول الكبير ليشاهد صباح، وهو لا يرحم بنقده. فردّت عليه: أنا أحترم فرنسا وأهلها، لكنني أتيت من بلد حضارته سبقت التاريخ، وغداً ستكون حاضراً، وستستمع، وتشاهد وتكتب… نحن لا نرتجل في الفنّ بل نملك تراثاً يؤهّلناً أن نفتخر به.
وغنّت صباح في ذلك المساء كأميرة الأحلام والسحر. غنّت من استعراض «موال» و«ميجانا»، و«القلعة»، و«عالضيعة»، و«يا عزيز عيني». لكنّ القنبلة كانت «عالنّدا» بالفرنسية، فاستعادها الجمهور الفرنسي ثلاث مرات وبالتصفيق الحاد وبالجنونيّ الكلاميّ المعبّر عن الاحترام والتقدير. أمّا كلمات الإعجاب فكانت تسقط كالمطر بينما صباح تغنّي. بينما ـ عادةً ـ كان جمهور «أولمبياد»، يستمع ويصفّق فقط ، وهذا لم يحدث في تاريخ المسرح الفرنسي.
خلال الاستراحة الأولى عرضت شركة «فيليبس» 1500 أسطوانة لصباح للبيع في باحة المسرح فنفذت كلّها خلال الاستراحة. بينما عمّال «أولمبياد» استعدّوا للحفل بطباعة آلاف الصوَر الملوّنة لصباح، وباعوا الصورة الواحدة بعشرة فرنكات، ونفذت كلها.
بعد الحفل كُتب ما يشبه السحر عن صباح في الصحف الفرنسية، وشُبّهت بالأميرات الواثقات الساحرات، بينما قال صاحب «أولمبياد» برونو كو كاتريس: من بين كلّ مطرباتنا، نحن لا نملك مطربة مثل صباح، صباح تجمع الجمال، والسحر، والذوق، والصوت وعذوبة الأداء والأناقة، والشخصية الآسرة، ولا تستطيع الانفلات منها، ومن بين كلّ من وقف على «أولمبياد» لم أجد الجمهور يتجاوب كما تجاوب مع صباح.
بعد باريس، ذهبت صباح مع الفرقة والمخرج روميو لحود إلى كلّ أنحاء بلجيكا لإحياء خمس حفلات. والمحطة الأولى كانت على المسرح العالمي «تورن هاوت»، والذي يبعد عن بروكسل 97 كيلومتراً ويجاور هولندا. يومذاك، حضر 2500 شخص لتعلو عاصفة حادة من التصفيق يطالبها بالإعادة رغم أن غالبية الحضور لا ينطقون اللغة العربية. ومدّدت إدارة المسرح الوقت لساعة إضافية حتى تسعد صباح الجمهور، وهذا لا يحدث في تاريخ ذلك المسرح عادة.
بعد الحفلة كتبت صحف بلجيكيا الكثير عن عالمية صباح، فقد قال السفير البابوي هناك: حسبت نفسي وأنا أستمع إلى صباح وأراها، أنني أرى لبنان بجباله وأنهاره وشمسه. صباح حالة خاصة تبشّر بالجمال والسعادة والتميّز.
وكتب صحافي بلجيكي: صباح ساحرة لبنان والعرب، سحرت بلجيكا، فقد جاءت إلينا مع الفرقة اللبنانية بالزهور والشمس الدافئة. وكتبت مجلة «لو سوار» البلجيكية: حلم ألف ليلة وليلة الذي نسمع به انقلب إلى حقيقة بفضل صباح التي جسّدت لنا الحلم. والليلة الثانية بعد الألف، صباح لا تقارن مع أحد، ولا يوجد في بلادنا من يوازيها، إنّها ملكة من الشرق فرضت وجودها بقوّة صوتها وسحر حضورها علينا.