عشرون سنة بصحبة رواية
أمير تاج السرّ
من الروايات الثلاث عشرة، التي كانت قد رُشّحت في القائمة الطويلة لجائزة «بوكر العالمية»، وهي جائزة مختصّة بالأدب المترجم من جميع لغات العالم، وتشرف عليها جائزة «مان بوكر» البريطانية، رواية صينية عنوانها «الكتب الأربعة»، للروائيّ الصينيّ يان ليانكا، ذكر أنها تتحدث عن تاريخ الصين، وأن كتابتها استغرقت عشرين سنة، قبل أن تصدر في السنة الماضية، وتحظر بعد ذلك من التداول باللغة التي كتبت بها.
حقيقة، أتشوّق لقراءة تلك الرواية، ليس بسبب حديثها عن تاريخ الصين، وهناك أعمال كثيرة تحدثت عن ذلك التاريخ وكشفته، مثل «الذرة الرفيعة الحمراء»، لمو يان، و«بجعات برّية»، تلك الملحمة الضخمة، البديعة. ولا بسبب حظرها من التداول في الصين، فهناك أعمال كثيرة، تحظر بلا معنى، ولا أيّ هدف، خصوصاً في بلاد مثل الصين لا تبدو حريصة على التابوات المعروفة، التي غالباً ما تتجنّبها كتاباتنا. إنّما بسبب أن كتابتها استغرقت تلك المدة الطويلة، وهي مدة غير عادية لإنجاز نصّ، حتى لو بلغ حجمه عشرات المجلدات، وليس بضع مئات من الصفحات.
لقد جلست كثيراً أفكر في ما يجب اتّباعه لإنجاز رواية، في عشرين سنة. ما هي الخطة التي يجب اتباعها؟ وما هي الشخصيات التي يجب أن تكتب، وتعيش وتستمر في العيش من دون أن تصدأ أو تشيخ كشخصيات داخل نصّ، وتصبح كتابتها نوعاً من نحت الذاكرة؟ وكيف أصلاً يحافظ الروائي على صبا نصّه وشبابه، ويتبع طقوس الكتابة نفسها، كل هذه المدة، ولا يتعب أو يمل من صحبة شخصيات معينة، صحيح أنه هو من ابتكرها، ولكن صعب جداً أن تظل معه هكذا، جزءاً مفروضاً، عليه أن يمسك به، إلى أن ينتهي النص؟
مؤكد لكلّ كاتب طقوس معينة، تساعده في الكتابة، وغالباً تبدأ معه حين يكتشف موهبته باكراً في الحياة، وتستمر معه حتى يشيخ، ولا تتغير إلا تحت ضغط ظروف طارئة مثل السفر والمرض، أو الحروب التي باتت في السنوات الأخيرة، عاملاً مهماً في هدم الموهبة والإبداع، بتشريد المبدعين عن استقرارهم وإبداعهم. تلك الطقوس تضمّ ساعات الكتابة، إن كانت ليلية أو نهارية، وكيفية الكتابة إن كانت على الورق أو على الحاسوب، إضافة إلى عادات التخطيط ورسم الشخصيات قبل الشروع في كتابتها، أو عدم فعل شيء سوى الكتابة، وترك الأفكار المنسابة تأتي بحكاياتها وترسم شخصياتها، كما يفعل البعض، وبالطبع خصوصاً في العالم الغربي، حيث الكتابة مهنة جيدة، هناك ساعات يومية، ينشغل فيها الكاتب بوظيفته، أربع أو خمس ساعات وحتى ست وسبع عند البعض، وحين ينتهي النصّ الذي يكتب، يبدأ التفكير في نصّ آخر، وإجراء الأبحاث حوله، وهكذا.
وبالنسبة إلى من يملك وظيفة أخرى للعيش بعيداً عن الكتابة، ويتحيّن الفرص ليكتب، قد تبدو الطقوس مختلفة قليلاً أو كثيراً، لكنها في النهاية طقوس تؤدّي إلى كتابة نصوص لا تستغرق عشرين سنة على الإطلاق.
ما أعنيه هنا، هو فعل الكتابة، فعل لم النصّ من الحكايات التي خبرها الكاتب وخزنها في ذاكرته، أو اخترعها من تفعيل الخيال، وإدراجه كحقيقة داخل النصّ، ويمكن أن يكون حقيقة في الواقع، ذلك الفعل الذي أسميه مدهشاً لأن الكاتب كما أعتقد، يحس بمتعة ما أثناء ذلك، ويستطيع القارئ الجيد أن يحس بمتعة الكاتب، خلال صفحات من روايته أو حتى خلال جمل وكلمات معينة، قد تبدو مبتهجة وترقص داخل النصّ، وعندي يقين أن كاتباً مثل هاروكي موراكامي وفي نصّ مثل «iq84 »، كان يغنّي أو يرقص أثناء كتابة نصّه المدهش ذلك، وقد أحسست بالانفعالات تلك وأنا أتابع شخصية «أومامة»، فتاة القصة الغريبة، ومعها قصة اليابان بزحامها وغرائبيتها. وكلما أعدت قراءة «الحب في زمن الكوليرا»، لماركيز، الذي أعتبره من كتبي المفضلة، وأحتفط بطبعات عدّة من الكتاب نفسه، أحسّ بنشوة خبيثة، ربما انتشى بها ماركيز، وهو يمنحنا عالماً يترنح بفعل الحبّ والجنون، وأثناء وجود وباء خطير مثل الكوليرا.
نعم، النشوة تمسك بالكاتب وهو يعمل، وفي أحيان كثيرة، تلهيه عن إتمام النصّ أو اختصاره ليخرج بصورة غير مملة، وفي زمن معقول، لا يستغرق سنوات طويلة، فيظلّ يكتب منتشياً، ليجد أن الأفكار شاخت فجأة، وحلاوة النصّ المراهق أو الصبيّ، أو الناضج، ابتدأت تخفّ بسبب كهولة داهمته.
وهذا ما يجعل أيضاً بعض النصوص التي كتبت على مدى سنوات، تبدو في ذهن القارئ، صعبة، ومتجهمة. وقد أكون مخطئاً في تقديري للأمور، لكنني وجدت مثلاً، نصّ: «مقبرة براع» للإيطالي أمبرتو إيكو، نصّاً محكماً في بنائه، لكنه في غاية التجهّم، وليس سلساً أبداً، ولم أكمله، بعكس «اسم الوردة» الذي كان بديعاً في انسيابيته، وينادي القراءة بصوت عال، وهناك نصوص كثيرة لكتاب آخرين، بدت لي هكذا.
طبعاً ليس معنى هذا أن الكاتب عليه أن يتبع نشوة غيره وينتشي بها، أي أن يختصر من أراد أن يكتب نصاً طويلاً جداً، نصّه، ووقته، ويمنحنا إياه في سنة أو سنتين، بدلاً من خمس سنوات، أو عشر. إنما هي خاطرة من خبرة في القراءة والكتابة، يعرفها كثيرون، ويحسّون بذلك الإحساس الذي ذكرته، إحساس المتعة في الكتابة، الذي تقابله متعة أخرى في القراءة، وإن كان عدد كبير من القرّاء، لا ينتبهون أصلاً لأيّ نشوة أو متعة، ويعاملون النصّ كفكرة ينبغي أن تتبع مساراً معيّناً وتنتهي بكل غباء أو حسرة.
إذن، ماذا فعل الصيني يان ليانكا طوال عشرين سنة، ليكتب «الكتب الأربعة»؟ أو بالأحرى، ماذا كان يفعل كلّ ذلك الوقت؟ هل كان يكتب ويمحو؟، يكتب صفحة في شهر؟، يضع نهاية، ثم يلغيها، ويذهب إلى بداية للنهاية؟
مؤكد، الإجابات الشافية عن الأسئلة، توجد داخل النصّ، وسنرى إن كان ما كتبه، يحمل إيقاعاً سنرقص عليه، أم مللاً يدفعنا إلى عدم إتمام القراءة.
كاتب سوداني