هكذا أخطأت «بيروت مدينتي»

روزانا رمّال

الإفراط في التفاؤل بإمكانية خرق لوائح المجتمع المدني للوائح الأحزاب المتجذّرة والمنبثقة عن النظام اللبناني ما بعد الطائف قد يكون مبكّراً، لكنه ليس مستحيلاً إذا خضع الشارع اللبناني لمنطق ضرورة إدخال عنصر جديد يلوّن الحياة السياسية الراكدة عملاً بمفهوم التغيير الذي عصف بالمنطقة والذي يُعتبر هو بدوره مهمة متعثرة حتى الساعة لحساسيات الداخل والحسابات الدقيقة وخصوصية لبنان.

قد تكون فرصة التغيير في لبنان أصعب من أن تتماشى مع موجات الدول المجاورة التي تعيش اليوم لغطاً كبيراً بين مفهوم التغيير الذي حلّ بها والفوضى التي توشك على محو آثار وثقافات تشكل بحدّ ذاتها خطراً وجودياً على تلك الدول وسورية التي تعتبر الأقرب إلى لبنان مثالاً دقيقاً على ما يجري، لكنها من جهة أخرى قادرة على شرح صعوبة تحسين الواقع الذي يعيشه النظام اللبناني وإصلاحه رغم محاولات حزبية ضمن أطر الإصلاح والتغيير وهي كانت حديثة نسبياً بالعمل السياسي ولم تفلح في تخطي هالة النظام اللبناني القائم على فساد إداري ومالي مستمرّ بات يتحكّم بمصير الزعماء وامتداد سلطتهم زمنياً.

الأزمة السورية تحكي انتقالاً سياسياً من مرحلة انغلاق إلى مرحلة انفتاح يسعى إليها الأفرقاء اليوم من موالين للحكومة ومعارضين لها، الانغلاق هنا أو المحدودية بالمعني السياسي والتمثيل الحزبي، حيث لم تعش سورية تجربة الأحزاب، وهنا يتقدّم مشروع الحلّ على أساس حكومة وحدة وطنية تضمّ مجمل الأطياف التي انبثقت عن الأزمة.

يتحدّث المبعوث الأممي لعملية السلام في سورية ستيفان دي ميستورا عن «الحلّ المدهش» للأزمة اللبنانية، ويدعو في المناسبات والجلسات الخاصة بالتفاوض إلى تطبيق الإطار نفسه في سورية من اجل التوصل إلى مشاركة جميع الأطراف في السلطة، وهو يقصد هنا الحلّ الذي انبثق عن اتفاق الطائف والتقسيم والمحاصصة التي أعطت كل المشاركين في الحرب الأهلية حق التمثيل المعنوي والسياسي، حتى باتت بعض وظائف الدولة العليا خاضعة للعرف الذي يعتبر في بعض الحالات أقوى من الدستور.

التجربة اللبنانية اذاً، هي محطّ أنظار القوى الدبلوماسية الطامحة لخلق أرضية حلّ ممكن ان يكون المخرج للأزمة في سورية بغضّ النظر عن إمكانية تطبيقها من عدمه، وهنا يأتي دور التغيير في لبنان الذي يمثل مرحلة متقدّمة من العملية الديمقراطية في المنطقة من حيث النظرة الغربية.

الواقع اللبناني المترنّح ضمن زوايا الفساد والتدهور المنسحب على ارتفاع في الدين العام نتيجة تجربة ما بعد الحرب الأهلية والتوزيع الطائفي يحظى بإعجاب القوى الكبرى. فالأحزاب أثبتت قدرتها على السيطرة بتبعيّتها الخارجية الإقليمية او الدولية على الأوضاع في لبنان بنتيجة الارتهان القادر على ضبط الأمور عند كلّ استحقاق داخلي عسير حتى بات قرار الحرب والسلم والانتخابات والاستحقاقات الوطنية العادية من أكبرها إلى أصغرها مرتهناً لحساب سياسي خارجي محتّم.

تسعى قوى المجتمع المدني اليوم إلى الانتقال من حالة التغيير التي تسعى إليها سورية وهي «التجربة المدهشة» تلك إلى حالة المدنية التي يعيشها أيّ مجتمع ديمقراطي غربي تنزع صفة الطائفية وتقدّم العلمنة والمساواة بالحقوق المدنية كنموذج للبنان الجديد، وهو بالتحديد ما ليس ممكناً اليوم اعتباره قابلاً للتنفيذ لحسابات خارجية كبرى قد يفسّر بشكل مباشر ما جرى بالحراك الشعبي في لبنان الكثير منها، الصيف الماضي. فهذا الحراك الذي بدأ بحركة شبابية صادقة توجهت نحو المطالبة بالإصلاح أخذ يتجه فجأة نحو العنف والانحدار مع فقدان التنظيم وتغيير معالمه بشكل ملحوظ حتى بات يشكل اليوم بالنسبة للبنانيين مصدر قلق وإزعاج، بعدما كان في أول أيامه أحد احتمالات الانفراج.

دخول القوى النافذة على الحراك ودسّ ما أمكن من الشباب الملتبس التابع خارجياً لسياسات وتنظيمات وبعضه ممّن تدرّب في معاهد أوروبية وخضع لدورات بين إعلام وتثقيف وتسييس ينضوي ضمن تلك السياسات جعل نسبة أن يكون هذا الحراك نتاجاً محلياً بحتاً «صفراً»، فإفساد الحراك الشبابي قد تمّ وانتهى الأمر.

المشكلة الأساسية التي وقعت فيها لائحتا «بيروت مدينتي» و«مواطنون ومواطنات في دولة» تندرج ضمن اللغط الذي شاب الحراك، وبالتالي فإنّ وقوع شخصياتها ضحية السمعة السيئة التي لحقت بالمشاركين فيه، وبالانقياد نحو مشاريع خارجية مع دعم إعلامي ملحوظ حينها لا يرقى إلى مستوى الارتجال وتحمّل أعباء النقل المباشر في وقت تعاني كلّ وسائل الإعلام من أزمات مادية، كلّ هذا يحيط بحظوظ اللائحتين ويضعف من إمكانية خرقهما اللوائح السياسية، علماً أنها كانت فرصة لا تعوّض كان ممكناً أن تُحدث تغييراً بسبب انخفاض كبير لنسبة المشاركة بالعملية الانتخابية، بمعنى آخر كان ممكناً إحداث خرق مباشر في لائحة البيارتة فيما لو تمّ الالتفات إلى أمرين… أولهما يعتبر خطيئة أساسية أضاعت هذه الفرصة الثمينة وهو التحالف بين القوى المدنية الموزعة بين لائحتي «بيروت مدينتي» و«مواطنون ومواطنات في دولة»، ما يعني إمكانية أن تصبّ الأصوات في جهة واحدة، والثاني الأخذ بعين الاعتبار أنّ التحالف غير المباشر بين حزب الله والمستقبل وانكفاء الحزب عن المشاركة في المعركة ببيروت جعل نسبة الاحتقان الطائفي والحشد الذي كان ممكناً أن يزيد من نسبة المشاركة في الانتخابات أصعب.

إضاعة الفرصة في البلدية تشبه إضاعة الفرصة في الشارع غير المنظم وغير الموحّد وهذا يتطلب من القوى المدنية إعادة دراسة أجندتها مستقبلاً.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى