رولا ماجد لـ«البناء»: أحرّض المرأة على الثورة وعلى تمزيق كفنها بإرادتها
حاورها: علي بدر الدين
رولا ماجد، زهرة برّية تمرّدت على ربيع عمرها، وتفتحت في زمن لا تنتمي إليه. هجرت لونه الحاجب مسارَ عينيها، وتقمّصت روح فراشة طفلة لبست أجنحتها، وتراقصت ألماً مع حلمها الغافي في يباس الحقول. حلّقت في فنائها الأحمر، دارت حول نفسها، رسمت ذاتها فنفذ الضوء إلى روحها وأعلن انتسابها إلى منظومة الشمس.
تلثم حبرها من رحيق أزاهير عصيّة على الموت، تنثره غضباً أزرقَ على امتداد صفحات الألم، فنقرأه ونتذوقه مفردات مرّة في شِعر يعبق بعطر التراب.
كيف تترجم غضبها وما سرّ قوّتها؟ سؤال حملناه مع أسئلة أخرى، وقصدنا فراشة الشعر لنُجري معها هذا الحوار.
الغضب، التمرّد، القوة، قاعدة ثلاثية الأبعاد تنطلقين منها في شِعرك، تشفّرين رسائلك وتدوّنين غضبك بفراغات الآفاق البعيدة، وتنثريه شعراً نازفاً فوق بحور تبتلع دمه، وأنت ترين وتصرّين وتؤكدين أنك قوية ومنتصرة. ما هو سرّك وأين تكمن عناصر قوّتك؟
ـ ما أنا بسرّ لأبوح بذاتي. أنا العلن الناطق بِاسم المرأة التي خنقوا صوتها. أنا كذاك القلم الذي يدور حول نزفه ويزفر من رئتيه طلقات بنادق، وكتلك الكلمة التي تحدّرت من سلالة نطق غاندي وهزمت الغزاة. أنتمي إلى مفردة مسنّنة أطاحت بعروش طغاة، فالقوّة ليست مسألة عضلات.
لا شكّ في أنك ما زلت في بداية مسيرتك الأدبية والشعرية لمن لا يعرفك. حدّثينا عن بداياتك، عن طفولتك وكيف بدأت علاقتك بالشعر؟
ـ منذ طفولتي، كان يلازمني إحساس غريب يفصلني عن محيطي، يُشعرني بأنني مختلفة بالرؤى والتفكير عن صديقاتي وبنات جيلي، فأميل إلى الانفراد لدرجة الانعزال الطوعيّ وأسأل الفراغ أسئلة كبيرة ولا أنتظر أجوبة. فتقتحم مخيّلتي أفكار سوداء وبيضاء يعجز عقلي الصغير عن التكيّف معها، وفي داخلي شيء ما يلتصق بروحي ويزفر كلمات مبحوحة الصوت تطرب أذني، فأتفاعل حبّاً مع ذاك السجين الذي لا يغادر سرّي، واكتشفت لاحقاً أن هذا المقيم البشير هو الشعر. ومع الأيام، بدأ ينفذ من مسامات جلدي إلى النور. وحينذاك بدأت علاقتي العلنية مع الشعر، وكانت خربشاتي الأولى. أذكر أنها كانت ناطقة بأحاسيس طفلة تبحث بين المفردات الملوّنة عن فرحها الحزين. ولاحقاً نمّيت موهبتي وصقلتها. أما الكتاب الأوّل الذي قرأته، فكان «النبي» لجبران.
هل تأثرتِ به أم بغيره من الشعراء… خصوصاً شعراء الحداثة؟
ـ واهمٌ من يعتقد أنه لم يتأثّر بجبران إرادياً ولاإرادياً، وتحديداً شعراء الحداثة أو شعراء النثر. فهذا النهضويّ الرائد كسر التحنيط الأدبيّ الذي أصاب لغتنا بالجماد، وهو جدّد روحها لا بل أحياها وجعلها تنتمي إلى العصر. أما تأثري به إلى حدّ ما فهذا تحصيل حاصل لا نقاش فيه. أما بغيره، خصوصاً شعراء الحداثة فطبعاً لا، فلي لغتي ولي هويتي ولي أسلوبي الذي صار لوني وعُرفت به. رغم أنني أقرأ بشغف لأنسي الحاج، وأطرب لنزار قباني، ومن الملتزمين بمحمود درويش ومظفر النواب وموسى شعيب وغيرهم.
لماذا اخترتِ الحداثة؟
ـ الحداثة هي الحرّية المطلقة في الإبداع والتعبير بكافة معايير الشعر، سواء في الكلمة الصادقة أم في الصورة الحسّية التي تحتاج إلى الوضوح ولا تحجبها زخرفة بالية تفقدها جمالها. أما الشعر العمودي، فباعتقادي هو قيد وسلسلة تقيّد الخيال وتحاصره بنُظم معقدة، فيضطر الشاعر لأن يكون مزوِّراً وكاذباً أحياناً في بعض انفعالاته وأحاسيسه، لأنه محكوم بنظام الوزن والقافية وهذا واقع.
هل أنتِ مقتنعة بهذا اللون من الشعر ومقيمة فيه، أم سترتقين يوماً من النثر إلى الشعر؟
ـ لا أوافقك في صيغة هذا السؤال. هناك جدل لم يزل قائماً حول إشكالية النثر والشعر. فالشعر الحديث هو شكل راقٍ من أشكال الشعر. هو الفتى الذي أطاح بالكهل. طبعاً بالمفهوم الإيجابي. فالتقليدي لغة مترهّلة وعجوز تحاول أن تعيد إنتاج نفسها وتحيي زمنها، وثمة صراع قائم بين حيّ وميت. وفي المحصلة، الكتابة هي محض إحساس والإحساس هو الشعر. ألم تلاحظ اليوم أن الحداثة هي من تحيي الشعر لا العكس؟!
هل تنتمين إلى الأدب الملتزم؟
ـ ليس بالمطلق. مع أنني أتطرّق إلى قضايانا العربية في بعض قصائدي وتحديداً قضية فلسطين والمقاومة اللبنانية. ولكنّني ألتزم قضية المرأة، خصوصاً تلك التي لم تزل مقيّدة بسلاسل الجهل وقيود التوارث القبلي خانق إرادتها وأنفاسها. فتحرّرها مهمة ملقاة على عاتقنا. وهذا واجب كلّ من موقعه. والشعر شكل فاعل من أشكال المواجهة مع التسلّط الذكوري الأعمى ومن معه من ظلاميين لا يرغبون التقدم باتجاه النور. فنحن نحرّض المرأة على الثورة وعلى تمزيق كفنها بإرادتها، وهي قادرة وستنتصر. وفي معظم قصائدي المرأة ترفع إشارة النصر.
ممّن تستوحين طقوسك؟ وهل من محفّز ما يؤثّر عليك سلباً أم إيجاباً؟
ـ هي عوامل مجتمعة. وأكثر ما يستفزّني ذاك القمع الذي يمارَس ضدّ الإنسان، والجهل القابع في أوساطنا المتوارَث جيلاً بعد جيل ولا يغادر. ننتمي إلى ثقافته بالتواتر. وثمّة من يتشبث به ويفرضه بمبرّرات لامنطقية وغير مقنعة. وأحياناً تتستّر بالدين. وهذا المستفز يلزمني أن أترجم استيائي ميدانياً أيضاً من خلال موقعي كناشطة.
أما من أين أستوحي طقوسي في الكتابة، فطقسي هو ذاك الألم الصارخ الموسوم بالفرح الحزين، هو يلازمني منذ طفولتي، وغالبا ما أكتب وأنا في حالة وجدانية قلقة. هو مزيج أو خليط من ألم وغضب أخرج منهما بالكتابة والشعر.
ثمّة إشارات وصوَر شفّافة في شعركِ، هل تعتمدينها استسهالاً للقارئ أم أنها قاعدة؟
ـ القاعدة لديّ هي الوضوح، يليها الحسّ والصورة الشعرية برمزية سلسة. فأنا لا أكتب لمجرد الكتابة. وبعض ما أكتبه يكون نتاج تجربة. وأنا أؤمن بعفوية القصيدة لأنها تُصاغ من الحسّ والنبض. هي صادقة، والجملة الواضحة في القصيدة تُقرأ من دون تململ. لا أميل إلى الرمز المعقّد. فالشعر ليس حزّورة أو كلمات متقاطعة أو عملية رياضية، القارئ اليوم يبتعد عن الرمز المبالغ فيه هو لا يريد أن يفكّ ألغازاً. علينا أن نحفّزه ليقرأ وإلا سيبتعد وهذه هي المعادلة.
هل أنتِ راضية عن كتاباتك وأين موقعك الآن في الحقل الأدبيّ؟
ـ بصراحة، أقرّ وأعترف بأنني مصابة بما يسمّى التردّد العاقل الناجم عن انفعالات بيضاء إيجابية. عصبية الكتابة أحياناً، أكتب باهتزازات انفعالية وهذا ظاهر في بعض نتاجي، وإذا قرأته ستشير لي على انفعال هنا أو هناك. أما في ما يتعلق بالشقّ الثاني من السؤال، فأنا لست بهاوية تتبوّأ مواقع أو مناصب. فما زلت في بداية مسيرتي. ولا أعتمدها كقاعدة، فأنا أتردّد وأتمهل وأبطئ الخطى، فأحياناً أستعيد ما كتبت في بداياتي، وأقول هنا أخطأت وهنا أصبت، وهنا كان يجب أن أضيف أو أعدّل أو أحذف أو أظهر بوضوح أكثر أو أو أو… وهكذا، عندما أنشر قصيدة عصيّة، أنشرها لأتحرّر من طوقها وحصارها لمخيّلتي، فأضطرّ لأن أسقطها عن كاهلي لأنها تتعبني وأحسّ بأنها تصفعني على وجهي بعد النشر. أنا أعاني من الاقتناع الكامل بالقصيدة، وثمة قصائد في ديواني «عاقر تلد» لست راضية عنها، فهي كانت بداياتي واليوم أنظر إليها بمنظار مختلف بعدما نمّيت ثقافتي وصقلت موهبتي. وإضافتها إلى ديواني شكل من أشكال الوفاء لذاكرتي وطفولتي.
إلى أيّ مدى لم تزل الضرورات الاجتماعية أو السياسية تلعب دوراً فاعلاً في صوغ الشعر؟
ـ طبعاً هذه المحفّزات هي من ضرورات الشعر، خصوصاً الملتزم الذي يطرح نفسه كحامل راية. وكما تعلم، الشعر العربي كان متخماً بهذا النموذج من الأدب في الكمّ والنوع، خصوصاً في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، بحسب ما قرأت، والذي تلازَم وتزامن مع النكبة وبعدها الهزيمة، والتي عبّر عنها الشعر بأشكال وأنواع مختلفة، وكان بمعظمه ناقداً مستاءً وفي بعض منه كان نوّاحاً بكّاءً، وما بينهما كان من الضرورة والحاجة أن تقرأ لواقعيين موضوعيين يكتبون الحقيقة شعراً ونثراً. هذا الطوفان الشعري همد الآن، لا بل استنفذت مشروعيته التاريخية، وبات إلى حدّ ما يشبه قضايانا. وعلى صعيد المستجدّات وأعني الثورات العربية أو ما يسمّى «الربيع العربي»، فمن الطبيعي ألا نجد في جغرافيته السوداء حقولاً خصبة للشعر، بل حقول ألغام.
حبذا لو توضحين لنا ما تعنيه!
ـ لا أميل كثيراً إلى السياسة أو الشعر السياسي، إنما أطل عليه ببعض قصائدي وتحديداً في ما يتعلق بمعاناة الشعب الفلسطيني ـ كما أسلفت ـ وهذا واجب. أما الإجابة على السؤال فهو المشهد برمّته بعُقَده وناره ودخانه. هو مشهد ضبابيّ حاجب للرؤى، ولا يمكن أن تكتب بمخيّلة غبارية وقلم أعمى. المرحلة ظلامية لا مكان ولا موقع فيها للشعر.
حدّثينا عن منشوراتك ونشاطاتك.
ـ صدر لي ديوان بعنوان «عاقر تلد»، والثاني سيصدر قريباً، إضافة إلى عددٍ من القصائد المنشورة في الصحف المحلية والعربية الإلكترونية. وكان لي شرف إحياء أمسيات في منتديات ثقافية وأدبية على امتداد الوطن، وعدد من المقابلات الإذاعية والتلفزيونية، وآخرها هذا الحوار القيّم مع جريدتكم الغرّاء.
طوف
تترنّح يميناً ويساراً كسكّير
تتقاذف طابات عمرها كمهرّج
تخفيها بقبّعة حمراء
تحدّق في فراغها… وتبتسم!
ما من صدى لضحكات أطفال
صمت يعمّ المكان
تضحك باكية حتى العياء
جمهورها شتول سوداء
تهرّج ببكاء حتى الجنون
وتنحني على امتداد دمعها!
هي بطلة «سيرك» من دون بشر
ثمّة حجر
متفرّج أبكم يعلم
أنها تلفظ هذيانها الأخير!
ضريح زفافها
قاب وردتين أو أدنى
من عرس الفراشات!
تتقدّم حافية القدمين
تنحني لعداء ظلّها
وتجرّد فرحتها من زيف القناع
تقف مذهلة
وقد أغشى المشهد بصيرتها
واستحال دمعها ممحاة
مسحت ذاكرتها
وأردتها بطلقة ثأر!
وتطوف
وتطوف حول بقاياها
كمن أصابه المسّ!
فيا أيها الشاهد على جنونها
كن عادلاً
أطلِقْ يديها
فهي في القمّة الأعلى من الوعي
دعها تمارس طقوسها وتبكي
دعها تتلو شعائرها وتضحك
دعها تسلخ من حدائق أحلامها
أزاهير ميلاد وموت!