صباحات
إذا أطلّ الصباح وشعاع ضوء يقدح بشراراته ظلمة ما بين وريقات الياسمين فيحيلها شفّافة رقراقة كنهر جارٍِ، وتفاعل مع نسيج محملها الناعم المخفيّ، وفاح منه عطر وجذب إليها نحلة تتراقص على أنغام الضوء المتثاءب مع خيوطه الأولى، وبعضاً من نسيم بارد، وصوت فيروز يشقّ سكون الكون، ورائحة بنّ وهال، وأنت تشعر بالكرامة والعزّة. فذلك صباحك الدمشقيّ الذي خلقه الله لك وميّزك به عن الكائنات. فابتسِمْ ودعْ خطاباتك إلى ما بعد الظهر. للحديث عن قهر السياسة والعمل والأولاد والأسعار. للتذمر المنزليّ، للحديث عن سعر الدولار، لتتفلسف عن الهدنة وجدواها، تنعم بهذا الصباح الملائكيّ. وابدأ نهارك بإشراقة الابتسامة، والتفت ذات اليمين واليسار، وقل: صباحكم خير.
مفتاح السعادة هو اليقين أنها شيء غير الأحداث التي تأتي بومضة الفرح وشهقته المدوية. فتلك لحظات محبّبة لكنّها عابرة. بينما السعادة شعور مقيم دائم مثلّث الأبعاد. شعور بالرضا، شعور بالسكينة، شعور بالسيطرة على الأمور. هل أنت راضٍ عن إدارتك حياتَك وليس عنها؟ هل أنت في قلق ممّا يخيف أم في حال شعور بالأمان والثقة بمحيط وغدٍ آمنَين؟ هل أنت خائف ومتوتر من مفاجآت سيّئة أم تشعر بيقين أن ما سيأتي من مفاجآت لا يجلب إلا الأفضل أو لن يجلب الأسوأ؟ إذا كانت أجوبتك بالرضا والسكينة والسيطرة على الأمور، فتعلّم أن تجعلها شعوراً بالسعادة. وإذا كان جوابك مرتبكاً وضعيفاً، فخذ سؤالك إلى النهاية. هل ثمة ما تتوقّعه أسوأ من الموت؟ وهل الموت مفاجأة متوقعة في أيّ لحظة؟ إذاً، ما دام الموت هو الأسوأ وهو وارد في كلّ حين وما سيحدث أقلّ منه سوءاً، فافرح وكن سعيداً بما لديك من وقت قبل أن يداهمك. وقاتِل بابتسامتك الأحزان واشهِرْها سلاحاً في وجه الآتي. الفرح بعضٌ من نهر في داخلنا، فلماذا نغلق في وجهه المنافذ بالغرور والطمع والتذمّر والنقّ والسوداوية؟
إذا أردت أن تعلم هل أنت في حالة حبّ، تساءل هل هناك من لا يكتمل صباحك من دون تفقّد أحواله؟ وهل تشعر بابتسامة داخلية عندما تسمع اسمه مقروناً بخبر طيّب؟ وبتوتر وغضب إذا مسّه سوء؟ وبرغبة بالصراخ والمناداة بِاسمه في ليل غابة عميقة لا يسمعك فيها أحد؟ إذاً، أنت في حالة حبّ. فهل تحوّلت الأغنيات التي تسمعها مصدر قياس على حالتك معه بلا انتباه؟ وهل تقارن ما تقرأه عن الحبّ بخياله في ذاكرتك من دون أن تشعر؟ وهل تشعر أنك بحاجة إلى اهتمامه أكثر إلى حدّ تفلّت الغضب منك نحوه وأنت تريده شوقاً يصل؟ إذاً، فأنت عاشق. ابتسِم، فتلك نعمة إلهية اغتنمها ولا تضيّعها في متاهات العتاب التي تعبّر عن شوق تاهت عليه الطريق.
أحببت مبادرة «مواطنون ومواطنات في دولة» بقيادة شربل نحاس، وشجاعة «بيروت مدينتي» وانطلاقتها وأناقتها. وبقي لديّ سؤال لأركان المبادرتين القائمتين على شعار «كلكن يعني كلكن»، الذي يتحدّث عن السياسة ككلّ فاسد، ويدعو بعضه مثل «بيروت مدينتي» إلى اللاسياسة، وبعضه مثل الوزير نحاس ورفاقه إلى سياسة جديدة. سؤالي أنا وبيروت مدينتي، كيف سأحميها إذا تعرّضت للعدوان؟ وهل مدنيّة مدينتي بنظر اللائحة التي تحمل اسمها، تستدعي رفع شعار لا للسلاح؟ ولـ«المواطنين والمواطنات في دولة» هل ليدكم رؤيا لاستراتيجة دفاعية لهذه الدولة؟ وجوابي الافتراضي أن الإثنين يعلمان أن لا بديل عن المقاومة، لكنهما يخفيان ذلك تجنّباً لخسائر داخلية وخارجية. فهل هذا هو الجديد الواعد الشجاع الذي لا يخشى أحداً ولا يريد مصلحة ولا يعرف السياسة إلا قول الحق؟ أم هم أيضاً يمارسون السياسة على طريقة من يسمّونهم بـ«كلكن يعني كلكن»، وهم بالتالي جزء من هذه الـ«كلكن»؟
لا يحتاج الياسمين إلى كتابة لافتة جنبه تقول: هنا دكان عطر. كما لا يحتاج النبع الصافي إلى كتابة إعلان: هنا الماء للجميع بلا مقابل. لكن يجب وضع تحذير قرب الماء الآسنة أنها غير صالحة للشرب، كما يضع البعض أمام سور حديقته أو مدخل منزله «أملاك خاصة» أو «باب كاراج». الأشياء الجميلة تتحدّث عن نفسها والأشياء المؤذية وكل الأشياء المقيدة للحرية والإباحة التي تبقى أساس الخلق والطبيعة والقانون تحتاج إلى إعلان وتوضيح. تعرّفوا إلى أعمالكم وإتقانها وصحتها ودرجة الخير فيها من السؤال عما إذا كانت تحتاج توضيحاً أم تكتفي بذاتها للتحدّث عن نفسها.
إذا كان الوطن عصيّاً على التحديد بالجغرافيا وفقاً لخطوط الطبيعة وحدها، أو اللغة وحدها، أو الدين وحده، أو التاريخ وحده، وما يصحّ بأوطان لا ينطبق على سواها، فيصير هو بعرف العلم التعاقد الطوعيّ الجمعيّ بقوّة عناصر الطبيعة والتاريخ والجغرافيا على رموز جامعة بين المنتسبين إلى جماعة بشرية تقيم في حيّز جغرافي فتصير الآثار والأوابد التاريخية والعلَم والنشيد الوطني وسواها من الرموز حديثة الولادة، عوامل محدّدة للهوية الجامعة المسمّاة بالوطن. فإن كل العلاقات تحيا وتموت بمقدار كثافة الرموز المشتركة التي تنشأ بتعاقد طوعيّ بين أطرافها على السير معاً. فهكذا الحبّ والصداقة والزمالة والجيرة أنواع من تعاقد طوعيّ لأوطان صغيرة برموز من نوع آخر، وكل علاقة عمر رموزها قصير وكثافتها بلا عمق وطبقات متعدّدة إلى زوال قريب. يقول الحبيب لحبيبته وبالعكس أنت وطني، عندما يتشاطران رموز الوطن الأكبر بالحرارة ذاتها، وإلا تعقدت مسيرة صناعة رموزهما المشتركة، وصار الحبّ صناعة أو نزوة. وعندما يتشاطران رموز الوطن الأكبر الذي قد يصير الكون الإنساني الفسيح يتشاطران وطناً أصغر فأصغر، وتتعدّد بينهما الأوطان فيصير أحدهما بصدق وطن الآخر. صباح أوطانكم التي تحيا.
تكتشفون أن السؤال الدائم للبشرية وأجيالها وتعدد أوطانها وأجناسها وأديانها هو من نحن. وستكتشفون لدى التدقيق أنّ النحن والأنا تتغير عند السائل مرات مع الزمان والمكان .وتكتشفون أن الناس بلا أفعال بلا تعريف. فالفعل هو الذي يعرفكم، وبلا فعل تعرفكم الفرضيات التي لا يد لكم في الانتساب إليها لأنكم أشياء بلا ذات تعرفكم. وكلما زادت أفعال الناس توضحت صفاتهم وقلّ الاجتهاد في تحديد هويتهم، لا بل قلّ أيضاً تهاونهم في النظر إلى هويات الآخرين. عندها وقل نقدها لمن يحملون هويتها ومن لا يحملون لأن أهل الأفعال ينتقدون على قدر أفعالهم. فهي لا تمنحهم قوة للنقد بل تقدير لحجم ضعفهم فيقدرون قيمة أفعال الغير خلافاً للمتكاسلين القاعدين «البلا أفعال» والمتعيّشين على هوية صنعتها أفعال غيرهم، وأضعفها نقدهم. أما أهل الفعل، فنقدهم بنّاء لأنه ابن الأفعال ولأنهم يعلمون أن أفعالهم متواضعة. فنقدهم متواضع وخجول طالما هو نقد لأفعال لا لهويات. أما البلا أفعال، فنقدهم للهويات ليس لأنهم أهل فلسفة، بل لأنهم بلا أفعال. ميّزوا نقد الأفعال عن نقد الهويات، تميّزون المتفلسفين عن البنّائين. وميّزوا في نقد الأفعال أهل الرحمة عن المبالغين تعرفون أهل الفعل من أهل الكسل والمزايدة. وانظروا إلى داخلكم بنور الرحمة على أفعال الغير وبعين النقد على أفعالكم، وتمعّنوا بتواضعها قبل تسليط ألسنتكم على أفعال غيركم، تبدأون صباحاً جميلاً.