الداخلية «أضعف» من أن تتغنّى بالاستحقاق

روزانا رمّال

الاستقرار الأمني النسبي الذي يعيشه لبنان، ما خلا التوتر المتقطع في الجرود وعلى الحدود مع سورية، سمح للبنانيين خوض استحقاق الانتخابات البلدية والاختيارية بيومين لم ينتج عنهما أيّ تشنّج استدعى تدهور الأوضاع الأمنية. ويبدو الوضع الأمني حتى الساعة منسجماً مع نيات وزارة الداخلية والبلديات التي طمأنت اللبنانيين عن سلامة الاستحقاق.

تدرك وزارة الداخلية وعلى رأسها الوزير نهاد المشنوق أن إنجاز الاستحقاق يعني حساباً هاماً في سجل الوزارة، يُضاف إلى سلسلة إنجازاتها في عهد هذا الوزير أو ذلك، وانّ هذا الجهد الموضوع مفترض أن يكون موضع إعجاب القوى السياسية والمواطنين الذين رغبوا بخوض الاستحقاق مرشحين كانوا أو ناخبين، ومع ذلك فإنّ كلّ هذا لا يعدو كونه واجباً تقوم به الوزارة يتوجب على مَن يقبل مسؤولية الداخلية أن يضع نصب عينيه رفع الجهد والاستنفار التقني والسياسي والقانوني والأمني فيه إلى أعلى درجة ممكنة أما معاينة الاستحقاق استناداً إلى حسابات عدد الخروق أو الإشكالات الأمنية أو إشكالات بدلاً من الخروق القانونية تشكل ذراً خطيراً للرماد في العيون، فما هو واجب لا يمكن التغني به كإنجاز وحجب الاهتمام الرئيسي عن نزاهة العملية وخلوّها من الخروق الأساسية التي تشوب تعرّض العملية الانتخابية برمّتها للخطر.

غالباً ما تدعو وزارة الداخلية والبلديات، كما جرى في الأيام الماضية التي سبقت الأحديْن الانتخابيّيْن المرشحَيْن إلى التزام القوانين التي ترعى الانتخابات، مطالبة قوى الأمن الداخلي التشدّد في مكافحة أيّ رشوة انتخابية ومن المحافظين والقائمقامين تسهيل مشاركة ذوي الاحتياجات الخاصة في عملية الاقتراع. كما تتمنّى على وسائل الإعلام المساهمة في توفير أفضل الأجواء لتتمّ العملية الانتخابية بعيداً من التشنج، وبالتالي أن تلعب دوراً إيجابياً في تحفيز الناخبات والناخبين على ممارسة حقهم وواجبهم في التعبير الديمقراطي.

كلّ هذا مقبول لجهة اعتباره قلقاً مشروعاً من قبل الوزارة الطامحة لإخراج ناجح لأيام مفصلية من هذا النوع، خصوصاً أنّ هذه الانتخابات أتت بتحدّ أمني كبير شدّت الأنظار نحوها بعد الفشل بإجراء الاستحقاق النيابي والتمديد لمجلس النواب مرتين بسبب الأعمال الإرهابية والخطر الذي شكّلته ولا تزال المجموعات المتطرفة القابعة في جرود البلاد. لكن هذا لا يعني أن لا تتوقف الداخلية عند خروق جدية بحجم رشى انتخابية تلغي الانتخابات برمّتها في الدول الغربية والأوروبية، وقد يؤدّي ثبوتها وعدم ملاحقتها إلى استقالات متتالية بين المسؤولين، فتمرير استحقاق انتخابي برزت فيه وثائق تزوير من هذا النوع يعتبر سقطة قانونية تعاقب عليها الدساتير الديمقراطية بالطريقة الأمثل.

في الانتخابات البلدية التي تجري حالياً في البلاد لا يمكن تمرير مشهد تهافت المواطنين لقبض رشى انتخابية في منطقة «قصقص» البيروتية لصالح ماكينة المستقبل، مروراً عادياً، ولا يحق لوزارة الداخلية تجاهله في وقت جرى التجمع في وضح النهار حتى شهد عليه كلّ المارة والوافدين إلى تلك البقعة، ولا يحق لوزارة الداخلية أيضاً غضّ النظر عما جرى في انتخابات جونية وما شاهده اللبنانيون من شراء أصوات ومفاوضات على أسعار من مختلف القوى، ولا يحق للداخلية أيضاً غضّ النظر عن شراء الأصوات في زحلة، وإذا كان هذا حق كلّ ناخب على الطريقة اللبنانية بالاستفادة من كلّ شيء والتجارة في كلّ شيء، فليس من حق وزارة الداخلية اعتبار المشهد طبيعياً ومباحاً حتى أمام الملأ أجمعين على طريقة المثل القائل «إذا لم تستحِ فافعل ما شئت».

إنجاز الاستحقاق البلدي حتى الساعة يشهد فشلاً قانونياً ودستورياً وأخلاقياً ذريعاً لا يحق للداخلية التغني فيه لا من قريب ولا من بعيد، فالشق الأمني والتقني ليس وحده ما يختاره اللبنانيون في اليوم الانتخابي، بل انّ مسعاهم الأساسي هو نزاهة العملية الانتخابية، وبالتالي نتائج عادلة ومنصفة تضمن حقهم في اختيار ممثليهم.

يتحدّث خبير قانوني لـ«البناء» عن ثغرات في القانون الانتخابي، ويقول إنه غير كافٍ، فلا يوجد تنظيم للإنفاق الانتخابي المتعارف عليه في الدول الديمقراطية، وهنا فإنّ دور المال لا يتمثل بالرشى فقط وشراء الأصوات، بل يتعداه إلى الإعلام الذي ينحاز بشكل واضح إلى مرشحين دون سواهم، والذي يتقاضى مبالغ باهظة في الموسم الانتخابي الذي بات مصدراً مربحاً للكثير من المؤسسات التي لا تبالي بنزاهة العملية على الإطلاق، إضافة إلى دعوات العشاء والغداء وما يتبعها من توزيع منح مدرسية وخدمات طبية وصحية، ولكن بالرغم من هذا الضعف في القانون، فإنّ الرشوة تبقى «جرماً» يعاقب عليه القانون، وللقضاء الحق في اتخاذ أيّ أحكام تنتج عن تثبّته من حصول الرشوة بإبطال ما بُني عليها حتى لو كان العملية الانتخابية، وهنا يتوجب إضافة نصوص خاصة وصريحة في قانون الانتخاب وضوابط للإشراف على الإنفاق الانتخابي والحملات الدعائية وغيرها.

وزارة الداخلية اللبنانية بحاضرها وماضيها غير قادرة على تخطي المال السياسي والقوى القادرة على تخطي القانون والقضاء معاً في بلد تتسيّس فيه كلّ الاستحقاقات وتخضع لتجاذبات إقليمية ودولية، لا تهمّ الناخب كثيراً في معرض بحثه عن طريقة عيش أفضل، وبالتالي فإنّ هذا لا يعني أن تتغنى باستحقاق أبعد ما يكون عن النزاهة والتمثيل العادل الذي يعيشه الناخب اللبناني غالباً عند كلّ استحقاق.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى