نبع عبد المنعم الأنصاري يفيض شعراً عذباً وعاطفة صوفيّة وسعياً دائماً إلى الحق والخير والجمال
كتب ناجي عبداللطيف: الشاعر الكبير عبد المنعم الأنصاري، متنبي مصر الحديث، من شعراء قلّة دافعوا عن عمود الشعر العربي وحافظوا عليه. رحل في شباط 1990 عن حياة شعرية حافلة بالعطاء. صدرت له المجموعات الشعرية الآتية: «أغنيات الساقية»، «على باب الأميرة»، وأخيراً ديوان «قرابين». جمع الشاعر الصديق أيمن صادق أعماله الكاملة ومخطوطاته في «ديوان الأنصاري» الصادر عام 2006 لدى «دار الوفاء» في الإسكندرية.
كان الأنصاري عضواً في اتحاد كتاب مصر منذ إنشائه، وعضواً في لجنة الشعر في المجلس الأعلى للثقافة، إلى نشاطه المتميز في نوادي الأدب في قصور الثقافة في الإسكندرية، كذلك في هيئة الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية بالإسكندرية. مثّل مصر في العديد من الاحتفالات والمهرجانات الأدبية، كان آخرها «المربد» في العراق قبل وفاته بقليل.
يطيب لنا أن نتصفح ديوانه الأخير «قرابين» لنتعرف إلى شعره، ونعيد اكتشاف نبعه العذب الفياض، فالقارئ المتعمق في هذا الديوان يجد نفسه أمام محاور ثلاثة هي:
1 المرأة التي شكلت حيزاً من قرابين الأنصاري.
2 الوطن الذي كان له نصيب وافر من قصائد الديوان.
3 الذات التي هرب إليها الأنصاري ليلوذ بالحقيقة وينجو بنفسه من الشرور والعفن الذي عمّ حياتنا.
المرأة أولاً:
التجربة العاطفية لدى الأنصاري صوفية، يسعى فيها دوماً إلى الخير والحب والجمال. يقول في قصيدة «قرابين»:
أسْعى إليْكِ وقدّامِي قرابيني
على طريقٍ إلى مغْناكِ يُدْنيني
لكنني كُلما أفلتُّ منْ شبَحٍ
يلوحُ لي شبحٌ أعْتى فيُقْصيِني
جوعانُ مَنْ لي سواكَ الآنَ يُطعمُني
ظمْآنُ مَنْ لي سواكَ الآنَ يسْقيني
يبحث عن المرأة الحلم والخير والجمال التي تأخذ بيده إلى النور وتنقذه من الغي والضلال، وهو يدافع كذلك عن المرأة المثال الذي ينشده، ويقول في «اللعبة الخطرة»:
لا ترْجعِي للعبةِ الخطرةْ
وإذا رجعتِ فلسْتِ مُنْتصرَةْ
إني أراهُ يَحُومُ مُقترباً
وأراكِ رغمَ الجرْحِ مُنْتظرَةْ
وَلَكَمْ بذلتُ النصْحَ سيدتي
لكنَّما نُصْحي بلا ثـمــرَةْ
يعاود البحث إذ يقول في قصيدة «الحزن والصمت»:
لا تسْأليني الآنَ عنْ وجهَتِي
وأشرقي كالنجْمِ في وحْشَتِي
كما يقول في قصيدة «أغنية»:
بوَميضِ عيْنيْكِ الدروبُ تُضاءُ
وخُطايَ في أرْجائِها عَمْياءُ
خلال بحثه عن المرأة الأنموذج نراه يفشل في الوصول إليها حيناً، فينأى جانباً ويبتعد عنها، ثم يعاوده الحنين إلي البحث عنها من جديد. حيث يقول الأنصاري في قصيدة «واهمة»:
إبكي كما شئْتِ إني لسْتُ أكترِثُ
بغرَّةٍ لمْ يَزلْ يحْلو لها العَبَثُ
فليْسَ دمعُكِ لو تبْكينَ دمْعَ أسى
وإنما دَمْعُ أنثى رَادهَا الغرَثُ
وما لمثْلي وقدْ همَّ الخريفُ بهِ
وفارقتْهُ الأماني وهي تبْتعثُ
أن يستجيبَ إذا ناجتْهُ غانيةٌ
جَوْعَى يُعرْبَدُ في أذيالها الخَبَثُ
يتوق الأنصاري في قصائده العاطفية إلى المرأة النموذج التي تأخذ بيده وتنقذه من غياهب الدنس.
الوطن ثانياً:
المحور الثاني وهو الوطن، وهو لدى الأنصاري كلمة ينطق بها وعليه أن يدافع عنها، وبالتالي يبحث دوماً عمن ينقذ الوطن ويدافع عنه وعن كلمته. يقول الأنصاري في قصيدة «المنحنى»:
هيَ كلْمةٌ ما كُنتُ قائلُها
إلاّ وكانَ وراءها حتْفي
مع ذلك يصر على حملها لتظل على الدوام باقية. يقول في قصيدة «القرابين»:
ثمَّ انتهيْتُ بأحزاني إلى جبلٍ
وليْسَ يعْصَمُني ممَّا يُلاقيني
أكلْتُ منْ خُبزِ أعدائي فأوْرَثني
جُبْنَ العبيدِ وإقدامِ المجانينِ
وَرُحْتُ أختالُ في قيْدي ويلعَنُني
والعارُ يَنْشرُني جَهْرَاً ويطْويني
حتى هتفْتُ وأوْزاريْ على كتِفي
منْ أيِّ مُنْعَطفٍ ياموتُ تأتيني
ثم يهرعُ إلى صورة «البطل» التي تحيا في داخله، موجهاً إليها الخطاب بعدما تعب من التجوال والبحث عنها. يقول الأنصاري في قصيدة «أصداء»:
أيها القادمُ منْ عِرْقِ الأسى
مَنْ لنا غيْرُكَ في المحْنةِ عَوْنُ
كَشَفَ المسْخُ لنا عن وجْهِهِ
وَبَدا الهوْلُ الذى أمْسى يُجَنُّ
فإذا الجنةُ نارٌ وإذا
شاطئُ الحُلمِ الذي نرجوهُ سجْنُ
أيها القادمُ ها نحنُ على
هَضَباتِ الرعبِ في أفقكَ نرْنو
لنرى موْكبكَ الآتي ضُحىً
وفؤاد الربِّ من فوقكَ يحْنُو
وسط التناقضات التي تفشت في أرجاء الوطن يبشر بالقادم الذي يبدل الشر خيراً، والخوف أمناً. يقول في قصيدة «القادم»:
جاءَ تحْدُوهُ خُطى منْ سَبَقهْ
راكباً مَتْنَ رياحٍ نزِقَهْ
كانَ لا يحملُ في جعْبتِهِ
منْ كتابِ الحبِ إلا وَرَقهْ
وبذوراً قدْ أتى يزرعها
في رمادِ الأنْجمِ المحْترِقهْ
فإذا جانبها الغيثُ ولم
ينزل الطلُّ سقاها عَرَقهْ
ربما تُنبتُ منها غابةً
تُولَدُ الأسْدُ بها مُنْطلقهْ
رغم تبشيره بالقادم يزداد الطغيان والبغي ويطغى الفساد ويملأ الأرجاء والأجواء، فيرجع خائباً يتذكر محاولاته السابقة في البحث عن البطل الذي يدفع عن الوطن ما به من شرور إذ يقول في القصيدة نفسها:
أبْطأ القادمُ من خطوَتِهِ
مثلما أبطأ من قد سَبَقهْ
وعلى الأفقِ سؤالٌ صامتٌ
ردَّدتْهُ نَظَراتٌ مُشْفَقهْ
ذلك الغارقُ في أحلامهِ
ليس يدرى بالمنايا المُحْدقهْ
مَنْ تُرى منا غدا يُطلقهُ
منْ لموْلانا سيُهْدِي عُنقهْ
مع تكرار محاولات الأنصاري في البحث، وفشله المتكرر في الوصول إلى غايته، نجده في النهاية يهتدي إليه، ويعثر عليه في داخله، في ذاته. حيث نصل إلى المحور الثالث.
الذات ثالثاً:
في نهاية االرحلة نجد الأنصاري قد انتهى إليه ووقع على ضالته المنشودة في داخله، في ذاته التي هرب إليها ليلوذ بالحقيقة، وينجو بنفسه من الشرور والعفن الذي عم حياتنا. يذهب إلى الشيخ ليوصيه، فيوضح الشيخ له الطريق ويدله على معالمه. يقول الأنصاري في قصيدته «من وصايا الشيخ»:
قالَ لي سيدُنا شيخُ الجبلْ
وأنا أصْغي إليهِ في وَجَلْ
صاحبي أنتَ أجَلْ لكنَّما
خيْرُ صحْبي مَنْ إذا قالَ فعَلْ
فالذي يدخلُ في زمرَتِنا
ربما يحملُ ما لا يُحتملْ
قلتُ يامولايَ هذا قدَري
فأنا بينَ رفاقي لا أكلّْ
فوصاياكَ معي تحفظني
حيثما كُنتُ فلا أخشى الزللْ
عانى الأنصاري كثيراً في بحثه للوصول إلى الحقيقة التي لطالما عاشت في مخيلته، وداخل قلبه ووجدانه، تدفعه بخطى ثابتة إلى الأمام حتى عثر عليها، وأمسك بها بين أصابعه كي لا تفلت وتضيع، فنجده يضعها في لوحة بارزة في مقدمة الديوان لتصل إلى القارئ في يسر وسلام. يقول الأنصاري في مقدمة «القرابين»:
مولايَ إني شاعرٌ أعْزَلْ
برٌّ بأصفادي
ولمْ أضقْ ذَرْعا بما أحْملْ
منْ وزْرِ أعدائي
عفوَا إذا جاوزتُ لوْ أسْألْ
في لهفةِ الصادي
في أيِّ عصرٍ أيها الجدْوَلْ
تنْسابُ في الوادي؟
وهلْ يكونُ الشاربُ الأولْ
منْ بعضِ أحفادي؟
هكذا اهتدى الأنصاري إلى البطل المنقذ إذ وجده في ذاته، بإيمانه بالله تعالى. عاش شاعرنا حياته يبحث عن المثل الأعلى حتى اهتدى إلى نور الله تعالى الذي بثه في خلقه، لينمو داخل قلوبهم، فيهديهم إلى الخير، ويرشدهم إلى الصواب. ذلك السر الكامن في النفس البشرية ينقذها من الغيّ والضلال، ويهديها إلى سواء السبيل.