في الذكرى المئوية لاتفاقية سايكس ــ بيكو

راسم عبيدات

الحاضر العربي أشدّ إيلاماً من الماضي، فاتفاقية سايكس – بيكو التي قسّمت تركة الدولة العثمانية من البلدان العربية بين بريطانيا وفرنسا، قسّمتها على أساس جغرافي، تولّد عنه كيانات اجتماعية، خضعت للاحتلال العسكري المباشر، ولكن تلك الكيانات في حالة المدّ القومي العربي استطاعت أن تنتزع استقلالها من براثين المحتلين انتزاعاً، ودفع المحتلّ ثمن احتلاله خسائر بشرية ومادية، تلك الكيانات التي أوجدها الاستعمار، أسّست لحدود الدم بين الأخوة والأشقاء، واليوم يُعَاد إنتاج المشروع نفسه، ولكن على أساس تقسيم المقسّم وتفتيت المفتّت وتذرير الجغرافيا العربية وإعادة تركيبها على أسس مذهبية وطائفية، والشيء المؤلم حقاً أنّ مدارس القتل باسم الدين، والدين منها براء، هي التي أسّس لها المستعمرون بعد خروجهم، من أجل ضمان استمرار الحفاظ على مصالحهم لربّما لمئة عام مقبلة، هي الآن التي تقوم بتنفيذ مشروع التقسيم بجنود ومرتزقة من المنطقة وأموال عربية تضخّ على الجماعات الإرهابية والتكفيرية بالمليارات، وتلك الحواضن والدفيئات لتلك الجماعات لم تعُد تخجل أو تتحرّج من علاقتها في تلك المشاريع، بل هي أصبحت تنسج وتوثّق علاقاتها وتحالفاتها العلنية مع القوى المنفّذة للمشروع.

البعض منا يعتقد أنه عندما جرى التقسيم في سايكس – بيكو في السادس عشر من أيار عام 1916، فقط لاعتبارات جغرافية وسياسية من أجل منع توحّد الأمة. هذا المعطى صحيح، ولكن ما هو أهمّ منع أيّ حالة نهوض قومي وعربي، ولذلك يجري التركيز اليوم على الحلقة السورية، فاختراقها وإعادة إنتاج بنية الدولة السورية وهويتها وموقفها، يعني نجاح مخططات التذرير، وإقامة كيانات اجتماعية هشّة مرتبطة بأحلاف أمنية مع دولة الاحتلال، ومنصّب عليها «مخاتير» سمّوهم قياصرة وأباطرة وملوكاً ورؤساء وأمراء فاقدة إرادتها وقرارها السياسي ومرتبطة اقتصادياً وتُقاد من المركز الرأسمالي العالمي، وكذلك هذا يسمح بأن تكون «إسرائيل» دولة يهودية، ارتباطاً بنشوء مثل هذه الكيانات الهشّة.

ثمة رابط قوي بين اتفاقية سايكس بيكو وبين وعد بلفور، فوعد بلفور كان الترجمة العملية لاتفاق سايكس بيكو، حيث أوجد الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي، وهذا الكيان حدّد له دور ووظيفة ككلب حراسة متقدّمة لأميركا والقوى الاستعمارية في المنطقة، ضرب أيّ حالة نهوض قومي وعربي في المنطقة، وضمان استمرار عملية التقسيم، وحتى يستمرّ الكيان الصهيوني في هذا الدور المنوط به في حراسة التقسيم، وعدم تهديد وجوده وبقائه، فلا بدّ من عملية تقسيم للمقسّم، وبالأساس في سورية والعراق ومصر، سورية والعراق على وجه التخصيص، ومن هنا ندرك ما يجري من حرب كونية على سورية، فهي مفتاح العرب للوحدة والنهوض، وأيّ وحدة او نهوض يهدّد وجود هذا الكيان ولذلك المطلوب تقسيم المقسّم، حتى لا يستطيع أيّ كيان عربي هش محاربة «اسرائيل».

الكيانات الناشئة عن سايكس بيكو الجديد بلغة الزميل ناصر قنديل هي «حساب مدروس للعناصر الاتنية والعرقية والدينية فيها، يضمن الهشاشة إلى منع النهوض، والتماسك إلى حدّ منع السقوط».

هذا المشروع الجديد الذي أنتجته مراكز البحث والدراسات الاستراتيجية الأميركية، جاء بعد فشل السياسة الأميركية الخارجية في أعقاب الغوص في المستنقعين الأفغاني والعراقي، وبعد تفكك دول الاتحاد السوفياتي، فكان تقرير بيكر- هاملتون، والذي عنوانه الرئيس ضمان المصالح الأميركية في المنطقة لمئة عام مقبلة وضمن أمن «إسرائيل» يتطلّبان نشر مشروع الفوضى الخلاقة في المنطقة. هذا المشروع لكي يترجم إلى فعل بحاجة إلى قوى محلية وأدوات تخوض حروب الوكالة عن أميركا لكي ينجح، وقد سعت أميركا إلى أولى اختبارات الترجمة لهذا المشروع، من خلال خوض «إسرائيل» حربها بالوكالة في تموز/2006 على حزب الله والمقاومة اللبنانية، ولكن فشلت «إسرائيل» في ذلك فشلاً ذريعاً وأجهض مشروع الفوضى الشرق الأوسط الكبير، كتمهيد لمشروع تجزئة وتقسيم وتفتيت وتذرير المنطقة والجغرافيا العربية وإعادة تركيبها، وتلاحقت التطورات في المنطقة، حيث وفّرت ما يُسمّى بـ»الثورات العربية» او الربيع العربي بلغة الأميركيين فرصة ذهبية لتدمير وتنفيذ هذا المشروع، بحيث تكون أدواتها في المنطقة، هي مَن يتولى تنفيذ المشروع، مشيخات الخليج العربي السعودية وقطر ، تركيا وإسرائيل، وتنفيذ هذا المشروع بحاجة إلى شعبنة المذهبية والطائفية، بحيث تكون المراجع والقيادات الدينية ودور الإفتاء رأس الحربة في نقلها من المستوى الرسمي إلى الشعبي، الفتنة المذهبية سني – شيعي، مع شيطنة لكلّ محور المقاومة من طهران مروراً بالعراق وسورية وانتهاء بالضاحية الجنوبية في لبنان، والعمل على حرف الصراع عن قواعده وأسسه، بحيث يصبح صراعاً عربياً – إيرانياً بدلاً من صراع عربي – «إسرائيلي»، وبالفعل جند مرتزقة وعرب ومن مختلف الجنسيات وضخت مئات المليارات على «القاعدة» ومتفرّعاتها من «جبهة النصرة» «داعش» وغيرها من التشكيلات والألوية الإرهابية والتكفيرية، وتم تزويدهم بأحدث أنواع الأسلحة، من أجل كسر الحلقة السورية، والتي شكل صمودها لأكثر من خمس سنوات بدعم وإسناد من محور يمتدّ من موسكو حتى الضاحية الجنوبية، عائقاً كبيراً لتنفيذ هذا المشروع، والذي ربما تشهد التطورات المقبلة، وقف اندفاعاته وهزيمته، أو أنّ الأمور تحت إصرار حلفاء واشنطن السعودية وتركيا وبريطانيا وفرنسا على رحيل الرئيس الأسد والنظام السوري، وعدم منحه أيّ دور في الفترة الانتقالية، قد تدفع نحو انهيار الهدنة في سورية، ليقول الميدان والعسكر كلمتهما.

وأختم بما قاله الزميل جمال العفلق «قد يكون إحياء ذكرى اتفاق سايكس ــــ بيكو مؤلماً، ولكننا بعد مئة عام على هذا الاتفاق ما زلنا نقاوم وما زلنا مؤمنين بأننا أصحاب الأرض، وأنّ حق تقرير المصير هو ملك لنا. مئة عام في التاريخ رقم عابر، إذا ما حققت الشعوب النتائج المرجوة من نضالها وصمودها، مئة عام قد نكون خسرنا فيها الكثير، ولكننا لم نستسلم بعد ولن نستسلم، فحقنا بالعيش نحن من يضمنه لا المواثيق والقرارات الدولية».

Quds.45 gmail.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى