تركيا تنقل الصراع مع روسيا إلى البحر الأسود
د. هدى رزق
يتعامل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع الغرب بصلف، لأنه يعلم أنّ هذا الأخير لا يهتمّ إلا بمصالحه، فهو غير معني بتنحّي دأوود أوغلو، المهمّ أن يستمرّ النهج السياسي الذي دأبت عليه تركيا في علاقتها الأطلسية. هذا ما أكده اتصال أوباما بأردوغان، وتأكيده على ضرورة محاربة الإرهاب، لا سيما إرهاب «داعش» وتعزيز وقف إطلاق النار في «سورية».
أما موغيريني فلا يهمّها إنْ اختار حزب العدالة والتنمية بن علي يلدريم، وزير المواصلات والنقل «منفذ مشاريع أردوغان» وصديقه كرئيس للحزب، وبالتالي رئيساً للوزراء. بل المهمّ هو استمرار الالتزام بالاتفاق المعقود واستمرار التنسيق بشأن اللاجئين.
سيتولى الرئيس التركي الإشراف المباشر على السياسة الخارجية وستكون هيمنته بالكامل، ستختلف طريقة التعاطي وبعض المواقف من حيث حدّتها ولا دبلوماسيتها، لكن سيكمل أردوغان ما بدأه مع رئيس الحكومة السابق دأود أوغلو وسيحأول أن يأخذ في السياسة ما عجز عن أخذه في الحرب على سورية من خلال التفأوض، وسيقف بوجه روسيا، في مواقف لم تعتد عليها تركيا في الأمس القريب.
لم يوافق الرئيس التركي على كل شروط الاتحاد الأوروبي من أجل الغاء تأشيرة الدخول إلى الاتحاد الأوروبي الذي فرض على الحكومة التركية 68 شرطاً من أصل 72. رفض تعديل قانون الإرهاب ومكافحة الفساد. لكنه في المقابل صدّق على قانون إعادة قبول الأشخاص الذين لا ينالون موافقة الاتحاد الأوروبي كبادرة حسن نية. لا يشي الأمر بأكثر من ذلك فأنقرة التي عزمت متأخرة على مكافحة الإرهابيين الاجانب الذين يعيشون في تركيا تطلب من الغرب تعأوناً أوثق وتطلب منه ضمناً المشاركة في تحمّل مسؤولية غضّ الطرف عن تسرّب هؤلاء إلى تركيا ومنها إلى العراق وسورية. وحسب عميد كلية العلوم السياسة في الجامعة الأميركية في كريينيا في قبرص فإنّ المسلحين من أصل أوروبي يحأولون العودة إلى بلادهم، وقد نجح قسم منهم في العودة.
لكن مصادر أمنية في انقرة رأت أنّ هذه العودة ستستمرّ طالما «داعش» يواجه حصاراً في العراق وسورية. ووفقاً لتقرير المركز الدولي لمكافحة الإرهاب فإنه يوجد 4 آلاف مقاتل من بلدان الاتحاد الأوروبي، منهم 900 من فرنسا، 720 من المانيا، 700 من بريطانيا، و420 من بلجيكا. كما أفادت وزارة الخارجية التركية أنّ إرهابيين من أكثر من 120 دولة، من بينهم 2500 من السعودية، 6000 من تونس، 2000 من الأردن، 2100 من تركيا، و2400 من روسيا، قد دخلوا سورية والعراق.
يضغط أردوغان على الاتحاد الأوروبي ويذعن الأخير لبعض شروط الحكومة التركية التي تعلم بأنّ الغرب راهن على عدم عودة المسلحين وفوجئ بعودة البعض متمرّساً في القتال.
وفيما يتمّ التعأون بين الطرفين التركي والأوروبي، تشير التطورات الاخيرة إلى أنّ العلاقة مع روسيا ستستمرّ بالتدهور، فلقد ألمح أردوغان أنّ المسرح الجديد بين تركيا وروسيا سيكون البحر الأسود، من خلال خطاب وجهه إلى رؤساء الأركان الزائرين من دول البلقان.
صرح أنه ينبغي تحويل البلدان التي تقع على البحر الأسود إلى بلدان مستقرة، على أساس التعأون، وقال بوجوب أن يكون الناتو متواجداً بشكل أكبر، وحذّر من أنّ منطقة البحر الأسود تتحوّل إلى بحيرة روسية.
وشدّد على ضرورة أن يتخذ الحلف الأطلسي خطوات مطلوبة في جميع المجالات، بما في ذلك البرية والبحرية والجوية. ووجوب تقديم اقتراحات بهذا الشأن إلى الدول التي تقع على شاطئ البحر الاسود.
تنحرف تركيا عن سياستها التقليدية في ما يتعلق بالبحر الأسود فسياستها تركزت في ما مضى على أبعاد الناتو والولايات المتحدة الاميركية عن البحر الاسود،
تجنّباً لتعقيدات التوازن الهشّ وتلتزم باتفاقية مونترو 1932. وكانت تحرص على توفير الأمن لمنطقة البحر الأسود مع البلدان المتشاطئة وعدم تقويض الاتفاقية حتى أثناء الحرب في جورجيا عام 2008.
لكن الأمور قد تغيّرت منذ توتر العلاقات مع روسيا إثر إسقاط تركيا طائرة السوخوي في تشرين الثاني 2015، فالحرب في سورية أثمرت انعكاسات خطيرة على عدة جبهات، منها القوقاز التي شهدت تصعيداً بين يريفان وباكو.
تقوم الاستراتيجية التركية في مواجهة روسيا على مسألتين:
ـ الأولى عبر تعزيز وضع الناتو في البحر الاسود في ظلّ القمة المرتقبة في فرصوفيا في تموز المقبل، حيث سيجري استعراض استعدادات الناتو العسكرية ضدّ تحركات محتملة لروسيا في بحر البلطيق وأوروبا الشرقية فضلاً عن أوكرانيا والبحر الاسود.
في وقت تمّ فيه تفعيل قاعدة الصواريخ الدفاعية من قبل الولايات المتحدة الاميركية في رومانيا كخطوة من أجل التصدي لـ»عدوان روسي». كذلك تمّ تعزيز القوات البحرية لكلّ من رومانيا وبلغاريا وتكثيف الجهود من أجل السماح لجورجيا بالإنضمام إلى حلف شمال الأطلسي، إضافة إلى منح أوكرانيا مزيد من الدعم السياسي تشكل هذه التحالفات إجابة على روسيا في هذه المنطقة.
ـ أما الثانية فتتضمّن تطوير علاقات مع جميع البلدان الواقعة في منطقة البحر الأسود ولقد أدّت زيارة وزير الدفاع التركي عصمت يلماز إلى أوكرانيا إلى اتفاق جديد بين الدول الموجودة على البحر الاسود، حمل معه مخطط تفصيلي حول مجالات التعأون العسكري حتى عام 2020.
جاء هذا الاتفاق بعد زيارات عديدة هذا العام أكدّت عزم تركيا على الوقوف مع الوحدة الأوكرانية في صراعها مع روسيا… كذلك تمّ عقد اجتماع لوزراء دفاع اذربيجان وجورجيا وتركيا حيث ناقشوا اتفاقاً عسكرياً بعدما أخذت مشكلة ناغورنو كاراباخ طابعاً ساخناً مع أرمينيا وسيقود هذا التعأون العسكري إلى منأورات مشتركة.
جميع هذه التطورات تدلّ على تغيير كبير في السياسة الخارجية التركية التي لم تحأول من قبل مواجهة روسيا بشكل مباشر في البحر الاسود والمنطقة المحيطة بها، مما يوحي بأنّ إسقاط الطائرة الروسية لم يكن تلقائياً بل تبدو تبعاته مدروسة، ربما من أجل محاصرة روسيا، وتندرج ضمن خطط حلف شمال الأطلسي.
يبدو أنّ شخصاً واحداً سيقود النظام في تركيا وسيحأول قطف ثمار جهود دأود أوغلو وحكومته، اذ سيتمّ تفعيل العلاقة مع «إسرائيل» بعدما وافقت الأخيرة على مساهمة تركيا في إعادة اعمار البنية الاساسية لنقل الطاقة والمياه إلى غزة وإقامة مشاريع بناء مدارس وتجهيز مستشفى جرى الانتهاء من بنائها، وعد أردوغان بأنه حالما تتمّ الموافقة على التجهيزات ستعود العلاقات الدبلوماسية مع «إسرائيل». لم يتطرّق إلى عدم موافقة «إسرائيل» على بناء المرفأ في غزة بعد اعتراض مصر أو رفع الحصار عن غزة المستمر وهذه كانت من ضمن الشروط الأساسية التي طلبتها تركيا من أجل إعادة العلاقات مع «إسرائيل».
كذلك سيجري الإسبوع المقبل تطبيع العلاقات بين تركيا وقبرص اليونانية، وسيحصد أردوغان نتائج هذه الإنجازات في السياسة الخارجية على الصعيد الشعبي، حيث ستضاف إلى سجله للحصول على النظام الرئاسي.
هل ستنجح استراتيجية أردوغان في صبّ الزيت على نار العلاقة بين الناتو وروسيا…؟