عندما نخجل من عروبتنا
راسم عبيدات ـ القدس المحتلة
في مشاهد متناقضة أحياناً تودّ لو أن الأرض تبتلعك وتعلن البراءة من عروبتك عندما تشاهد مدى الذلّ والخنوع والانهيار الذي لحق بهذه الأمة على يد حكام وقيادة عربية لا ينطبق عليهم سوى قول الشاعر العربي العراقي الكبير مظفر النواب «هم بغايا بأفواههم». بلى يا مظفر، بغايا وأكثر من ذلك، فعندما تسمع تصريحاتهم ومقابلاتهم تجزم بأن هؤلاء لا ينتمون ولا يمتون إلى هذه الأمة بصلة ولا ينتمون إليها من قريب أو بعيد، فهم وصمة عار في جبين هذه الأمة التي أضحت خارج حسابات التاريخ البشري العاقل، لا تملك التقرير في شأن قضاياها، وغير مؤثرة أو فاعلة في أي من القضايا الإقليمية والدولية، فعلى رغم المجازر الوحشية كلّها التي يرتكبها العدو الصهيوني في حق غزة وأطفالها والتي بلغت حد الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وجرائم الحرب، ترى وزير خارجية النظام المصري يتحدث كأنه وزير خارجية فرنسا أو بريطانيا داعياً «إسرائيل» إلى عدم استخدام القوة المفرطة في عدوانها على غزة، في تشريع واضح لها في جرائمها ومجازرها. وكذلك وزير الاستخبارات السعودي السابق تركي الفيصل والمجرم بندر بن سلطان اللذان يحمّلان ما حصل ويحصل في غزة لحماس والمقاومة… إلى ما هنالك من القيادات والزعامات العربية المنهارة التي تعودت الذل والخنوع والعيش على التبعية والاستقواء بالأجنبي لحمايتها والدفاع عن عروشها ومصالحها. فهذه القيادات والزعامات ليست وحدها تتحمّل المسؤولية، بل كذلك الشعوب العربية وأحزابها وقواها السياسية ومؤسسات مجتمعها المدني إذ تسكت على مثل هذه القيادات والزعامات، فلو كانت هناك شعوب وأحزاب حية لما سكتت وصمتت صمت القبور حيال ما يحصل ويرتكب في غزة من جرائم حرب وتطهير عرقي على يد الإحتلال الصهيوني. أليس من العار أن تقدم دول أميركا الجنوبية على سحب سفرائها من دولة الاحتلال وتوجه إليها الاتهام بارتكاب جرائم حرب وسفارات الاحتلال وممثلياته في عواصمنا تحرسها جيوش الأنظمة، المجلّلة بالعار والتيجان والنياشين والأوسمة الخسة والنذالة. إن حرية الشعوب لا تجلبها لا بيانات شجب واستنكار، ولا صور وأعلام، ولا خطب نارية، ولا سجع ولا طباق. الحرية تعمد بالدم والتضحيات والسجون، تعلموا الرجولة وكرامة الرجال وعزتهم من أطفال غزة، وليس من مقاوميها فأنتم بقاماتكم جنوداً وضباطاً وقادة وزعامات لا تصلون إلى قامات أطفال غزة وليس إلى قامات مقاوميها… أنتم قيادات وزعامات تستدخل الهزائم وتنظر إليها على أنها انتصارات. أنتم قيادات لا تعرف معنى العزة والكرامة… قيادات ليست مستنمرة، بل مستنعجة.
تلك هي الصورة الأولى والوجه الأول للعملة التي تشعرك بالغثيان والرغبة في التقيؤ والتبرّؤ من العرب والعروبة، وحتى الكفر بها. وفي المقابل، على الوجه الآخر من العملة، صورة تشعرك بالعزة وتفخر بعروبتك حتى ترى بلداً بحجم قطاع غزة المحاصر من العرب العاربة والمستعربة قبل غيرها من الدول الاستعمارية الأخرى، فيه رجال مقاومين يصنعون فخراً وفجراً لأمة أذلتها تلك القيادات المهترئة والمخصيّة. بلى، رجال يثبتون للقاسي والداني أن الإرادة تصنع المعجزات، وبأن دولة الاحتلال هذه مثلما قال عنها السيد حسن نصر الله «أوهن من بيت العنكبوت» لمن يملك الإرادة، ولمن يريد أن يمحو ذله وعاره، ولمن يبني استراتيجية على أساس الصمود والانتصار.
دولة مدججة بجميع أنواع السلاح والتكنولوجيا يهزمها بضعة ألوف من المقاتلين، على رغم الفرق الكبير في التسليح وموازين القوى في سائر المجالات، وثبت في الميدان أنهم متفوّقون على العدو بالإرادة وبالانتماء وحب الوطن وقوة الحق، وأخلاقياً كذلك تفوقوا عليه إذ استهدفوا جنوده، ولم يستهدفوا أطفالاً ونساء ومدنيين عزّلاً، وتفوقوا عليه أيضاً بأنهم طلاب نصر وشهادة. تفوّقوا عليه بأنهم أصحاب حق. يقولون لنا افخروا، ونقول لكم ما قاله الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب: «إننا أمة لو جهنم صُبّت على رأسها واقفة». هذه القيادات والزعامات المأجورة والمخصيّة، التي أدمنت الذل، لا تمثلنا ولا تمت إلى عروبتنا بصلة. إنها جرذان صعدت وداست على رقاب شعوبها في غفلة من الزمن… آن الأوان لكنسها والتخلص منها. نحن من يقرّر مصير شعبنا. من يناضل ويضحي ويدفع الثمن ويستمر في المقاومة وصون الأهداف وحقوق الشعب الفلسطيني. الشعب الفلسطيني هو صاحب الشرعية، ولا شرعية خارج إطار المقاومة، ومن أدمن المفاوضات لأجل المفاوضات وألّف لها الكتب فليسر خلف مفاوضاته العبثية. إنه خيار سقط وسقط معه جميع حملة هذا الخيار والنهج والثقافة. العدو عنجهّي ومتغطرس ولا يقدم تنازلات جدية وحقيقية مجانية، وهو مرتاح إلى هذا النهج الذي يخدم مشروعه في التهويد و«الأسرلة»، وفي استمرار قضم الأرض وطرد البشر.
غزة يا عرب المحاصرة تهزم وتمرّغ في الوحل هيبة «الجيش الذي لا يقهر» وأنتم تدعمون وتقفون إلى جانب دولة الاحتلال لأجل أن تذبح المقاومة وتهزمها، كي لا تظهروا عراة على حقيقتكم، فنحن خبرناكم جيداً عندما شنت «إسرائيل» حربها العدوانية على حزب الله والمقاومة اللبنانية في تموز 2006، وقفتم وساندتم «إسرائيل» سراً وعلانية، ووصفتم حزب الله بالمغامر، وانتظرتم أن تجهز «إسرائيل» على حزب الله، وكظمتم غيظكم عندما لم تستطع ذلك، وكي لا تعمّم تجربة حزب الله ويشتدّ حلف المقاومة والممانعة في العالم العربي ومحوره، لجأتم الى شن حملة ظالمة ومشبوهة ضد حزب الله بلغت حد التخوين والتكفير والشيطنة وحتى إثارة الفتن المذهبية وإرسال الانتحاريين والسيارات المفخخة إلى الضاحية الجنوبية.
الآن، بعد الحرب الصهيونية الهمجية على شعبنا وأهلنا في قطاع غزة، أَضحى الفرز واضحاً بين من هو عربي أصيل وذي انتماء، ومن هو عربي بالاسم فحسب أو بوثيقة السفر أو قيد النفوس. هذه الملايين كغثاء السيل تذهب، ولا يمكث في الأرض ولا يبقى غير الحجارة والمقاومين.
على رغم انهياركم وتخاذلكم وتآمركم، لا بد لهذه الأمة من أن تأخذ درساً في التخريب. لا بد لهذه الأمة من أن تصحو وتقلب عروشكم المثبتة بالدبابيس، فزلزال غزة ونصرها هو ربيع عربيّ حقيقي سيزهر ويثمر في أكثر من بلد عربي.