الفكر التكفيري وحيثيات تغلغله في المجتمع السوري

د. رآفات

يسعى الكائن البشري وبشكل فطري إلى تلبية حاجات ودوافع غريزية متنوّعة صنّفها علماء النفس الى حاجات أولية وهي الحاجة إلى الأمن والحاجة إلى الطعام والشراب وحاجات ثانوية كالحاجة الى المكانة، والحاجة الى الحب، والحاجة الى الاستقلالية، والحاجة الى التواصل إلخ…


عندما يطرأ خلل على إشباع الحاجة الغريزية الأولية، وهي «الحاجة الى الأمن والاستقرار»، يضطرب وبشكل أوتوماتيكي إشباع باقي الحاجات، الأولية منها والثانوية، فيصل الإنسان إلى حالة اللااتزان ويشرع في البحث عن الحالة التي تسبق اللااتزان والتي هي بطبيعة الحال «الاستقرار».

ينزع العقل البشري في خضمّ سعيه عن الاستقرار والتوازن الى تفسير الظواهر المحيطة به وتحليل التطورات التي طرأت على عالمه استناداً إلى معطيات اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، وصولاً إلى التكيّف مع المستجدات الطارئة فإذا فشل أيضاً في إيجاد التفسير الملائم وتحقيق التكيّف المنشود، فإنه يدخل في دوامة من الخوف المستند الى غموض وعدم وضوح ما يجري فيلجأ الى التفسير الأسهل والأكثر سلاسة في عالمنا البشري، وهو التفسير الديني اللاهوتي المتضمّن وجود قوى خفية غيبية هي المسؤولة عن هذه التطورات وهي التي أرادت حالة اللااتزان واللاستقرار، وهي الوحيدة القادرة على إخراجنا منها وإعادتنا الى حالة الاستقرار.

في الازمة السورية عمد الفكر التكفيري الى التغلغل بين الشباب السوري الذي طالما وُصف بالعلمانية والقومية، أو على الأقلّ بالاعتدال، فهل نغالي حين نتهم الواقع بانزلاق نسبة لا بأس بها من الشباب السوري في مستنقع التكفير؟

على مرّ السنوات العشر السابقة عانى الشباب السوري من واقع اقتصادي اجتماعي مرير: فرص عمل قليلة، سوق عمل مضطرب مختلّ التوازن بين حاجاته الى اليد العاملة من جهة وقلة تدريب وتأهيل المتقدمين من جهة ثانية، بطالة متزايدة بشكل اضطرادي مع ارتفاع تكاليف العيش. ترافق هذا الواقع مع واقع خطاب ثقافي علماني متدني الكمّ والكيف. وفوق كلّ ذلك، واقع رياضي محجّم قائم على سيادة المحسوبيات والمصالح. ولا ننسى واقع الحياة السياسة التي لم تكن لتسمح للشباب السوري ولاعتبارات شتى بالانخراط في نشاطات سياسية وحزبية تصهر طاقاتهم في بوتقة التطور والتغيير.

إذاً: تزامنت لدى الشاب السوري، وفي آن معاً العطالة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والرياضية والعالم من حوله في تطوّر هائل التسارع. ترافق ذلك كله بخطاب ديني ممنهج وجمعيات دينية، سرية وعلنية، مرخصة تستقطب الشباب بل كلّ مكوّنات المجتمع السوري باسم الله «القوة الغيبية المفسّرة والمخلصة من هذا التطور المخيف «لتصل بالعقل الى حالة دينية مستدامة مسيطرة تؤمّن الاستقرار النسبي في ظلّ واقع مهدم مهدّد. وهذا بالذات ما أتاح التربة الخصبة لمروّجي الفكر التكفيري ليكون لهم تأثير فاعل ومهم في الحياة اليومية للمجتمع السوري.

نحن الآن أمام جيل اتخذ التكفير هدفاً في الحياة، فهو ليس وسيلة لهدف إنما غاية وهدف بحدّ ذاته يستخدم كمطية يمتطيها العدو للوصول الى تخريب الأجيال في سورية.

نتطلع الى خطاب علماني جريء يشخّص الواقع بمفرداته على حقيقتها ويُسمّي الأشياء بمسمّياتها ليتمّ وضع الأمور في نصابها ويتمكن من التصدي لحالة الاتزان الوهمي التي يقدمها الخطاب التكفيري للعقل البشري في مواجهة تطورات العصر. نتطلع الى خطاب سياسي اقتصادي اجتماعي ثقافي يقرن القول بالفعل، ويكون هدفه الأسمى في المرحلة المقبلة النهوض بالإنسان السوري المتزن اتزاناً حقيقياً قائماً على تكيّف العضوية مع معطيات وتطورات الواقع كما هو دون تزييف أو أقنعة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى