سورية تتماسك وتطيح بـ «المستقبل» أيضاً
روزانا رمّال
الحديث عن سورية ما قبل عام 2011 يختلف بشكل كلي عما بعدها، والمقصود ليس الدمار الذي حلّ فيها من أقصاها إلى أقصاها، إنما الدخول الحتمي لقوى سياسية ستتقاسم السلطة مع الدولة وتؤسّس لمرحلة جديدة لم يعد ممكناً تجاهلها، لكن يبقى حتى الساعة بعض الثوابت التي تشرح إطالة أمد الحرب، بينها ما يعتبر رمزاً تمسك به الشعب السوري، وعلى ما يبدو استطاعت قيادته حمايته بالقدر الممكن وهو عدم تبني أيّ شكل من أشكال التعاون والمصالحة مع «إسرائيل»، وأيّ شكل من أشكال التخلي عن حزب الله وحركات المقاومة كطريق أو ممرّ أو حليف أخذ على عاتقه كلّ ما يترتب على الصراع العربي ــــ «الإسرائيلي» وما تبقى منه حتى صار كلّ صعود لحركات المقاومة هو نذير مأزق مقبل إلى سورية وتحذير كامل لها.
هذا ما حمله معه وزير خارجية أميركا كولن باول عام 2003 عندما التقى الرئيس السوري بشار الأسد، كلّ هذا يُضاف إليه حرص شديد على تماسك الجسم الدبلوماسي السوري حتى انعدمت أشكال الانشقاق في ذروة التصعيد الذي عاشته سورية في بداية الأزمة، حتى أنه لا يلحظ ايّ حالة انشقاق لسفير وازن أو غير وازن بحضوره. وهذا وحده مؤشر على صمود مؤسسي وإتقان في اختيار هذا الجسم المتماسك الذي تحدّثت عنه الصحف الأميركية والمجلات المعنية بالسياسة الخارجية أكثر من مرة مثل «فورين بوليسي» في معرض وصفها الظهور الأول للفريق السوري المفاوض في جنيف مقارنة بفريق المعارضة.
تلفت أشكال التماسك المتعدّدة في سورية بأسس بنيوية تشكل هوية البلاد التي تبدو الأغلبية العظمى متمسكة بالحفاظ عليها، بعد المدة الزمنية التي تكفلت وحدها بذوبانها نتيجة تجاذبات الدول التي أفرزت مساحة كبرى للتخلص من هوية سورية السابقة، ومن بينها الجيش السوري والمؤسسة الأمنية. فالجيش السوري الذي شهد عمليات انشقاق هامة بداية الأزمة توقف عند حدّ لم يعُد ممكناً الحديث عن أحداث مماثلة كشفت الكثير مما كان قد شكل ثغرة في المؤسسة العسكرية حتى انقلبت فكرة الانشقاق بسلبيتها إلى إيجابية مطلوبة ورئيسية لدخول النظام السوري مرحلة مكافحة الإرهاب فرفض الجيش بثقله الأكبر الالتحاق بـ «الجيش الحر» الذي كان ممكناً أن يغيّر كلّ المشهد لو نجح في تكوين قاعدة كبيرة من عناصر المؤسسة وضباطها. الأمر نفسه ينطبق على القيادات الأمنية المحلية التابعة لوزارة الداخلية، لكن هذا لا يعني أنّ السوريين معجبون بتجربة الحزب الواحد، ولا يعني أنهم لم ينكبّوا باهتمام على متابعة إصلاحات حزب البعث وبنيته.
مطالعة الحدث السوري على مدى خمس سنوات حملت للحقيبة الدبلوماسية والسياسية والأرشيفية لسورية «الجديدة» الكثير مما يمكن أن يقاس ويحفظ لتجربة محاطة بتناقضات وتباينات عاشتها بكلّ تفاصيلها بتماسك لافت. وإذا كان من إيجابية أساسية أفردتها مساحة حضور الحلفاء الإقليميين والدوليين مثل إيران وسورية، فإنّ هذا أيضاً دليل جاذب يمثله نظام الرئيس السوري أو مصلحة بالمعنى السياسي لا يمكن الاستغناء عنها بالنسبة للأطراف المذكورة، ما أدخل سورية منظومة الأمن الدولي والإقليمي، فظهر عامل قوة كبيراً أخذته الدول المعنية بمحاربة النظام بعين الاعتبار. فمبدأ لجوء روسيا إلى اعتبار الأسد حليفاً يعني وحده اعتبار الأسد رئيساً نافذاً أو قوياً يتمتع بشعبية بين الجيش والشعب، وإلا لكان أسهل على موسكو استبدال الأسد باسم آخر قادر على الإنجاز تحت إشرافها يقطع الطريق أمام الأزمة التي أصبحت «معضلة» الشرق الأوسط.
تماسك سورية يأخذ لمطالعة أخرى تتمحور في ضرورة مناقشة أوضاع الدول والأطراف التي حاربت السلطات الحالية فيها وحاربت حلفاءها على مدى خمس سنوات ليتبيّن توالي الانسحابات السياسية والانتكاسات العسكرية والإقالات والاستقالات، فبالعودة إلى الأعوام 2012 2013 – 2014 فقد حفلت باستقالات صقور الحرب على سورية، بينها كان في إمارة قطر، حيث أعيد تشكيل الحكم بشكل مفاجئ وغير متوقع فسحبت أسماء كبرى مثل حمد بن جاسم وزير الخارجية القطري ورئيس الوزراء وانكفاء أمير البلاد حمد آل ثاني لصالح ابنه حديث التجربة تميم، وصولاً إلى إقصاء الأمير السعودي رئيس الاستخبارات بندر بن سلطان مؤسس حرب التكفير الحديثة أو المستحدثة شرق أوسطياً، والاسم الأبرز في توزيع «أمراء الجهاد» على طول العالم الإسلامي، فبدت الخطوتان الخليجيتان طارئتين بشكل يشرح تحسّباً من خلل ما قد يُستفاد منه داخلياً لإثارة فوضى كفيلة باهتزاز النظامين فتمّ الاستدراك. الإدارة الأميركية الحاضرة بقوة في ملف حماية الأنظمة الخليجية سحبت هي الأخرى اسماً مستفزاً مثل هيلاري كلينتون – وزيرة الخارجية السابقة – عرقل المحادثات ورفض من الروس واستبدل بجون كيري. فرنسا بدورها شهدت انخفاض شعبية الحزب الذي كان ينتمي إليه نيكولا ساركوزي فشهد سقوطاً مدوياً حلّ مكانه فرنسوا هولاند من حزب نقيض، كلّ هذا ساهمت فيه لعنة الحرب السورية التي أسقطت أنظمة ودولاً، وها هو تيار المستقبل لبنانياً – الذي يخفت حضوره نسبة للقوى المتضرّرة المذكورة يعيش ذيول اللعنة السورية أيضاً، فيخسر قاعدته الشعبية في كلّ لبنان من دون استثناء في أزمة تورّط فيها، فكلفته غالياً على صعيد التراجع الشعبي وعدم القدرة على إدارة معارك انتخابية مقبلة، إفلاس، انشقاقات وهزيمة كبرى… هكذا حكت نتائج الانتخابات البلدية التي تعتبر أول اختبار قوي لبنانياً منذ اندلاع الأزمة السورية.