مختصر مفيد حلفٌ ذهبيّ يذهب إلى النصر
ـ لم يسبق أن تشكّل حلف رسميّ مُعلن بين روسيا وإيران وسورية وحزب الله، يشبه الحلف المنظّم والمُعلن بين واشنطن وأطراف حلف الأطلسي من جهة، وكذلك بين واشنطن ودول الخليج وفي مقدّمها السعودية من جهة أخرى. أو بين روسيا ودول الاتحاد الروسي من جهة، وكذلك بين روسيا ودول «البريكس» من جهة مقابلة. لكن مَن يراقب المشهد الدولي والإقليمي سيكتشف أن الحلف الرباعي الذي يضمّ روسيا وسورية وإيران وحزب الله، الذي يفتقد لكل الأشكال التقليدية المنظّمة للتحالفات، والذي يمتدّ عبر إيران بصورة غير مباشرة والعراق عموماً وخصوصاً الحشد الشعبي فيه، ومثله «أنصار الله» في اليمن، ويؤازره مباشرة وغير مباشرة حلف «البريكس»، وتترقب حروبه لتجاهر بموقف مساند دول متردّدة كثيرة بسبب الخوف والقلق، في الانتفاض على الهيمنة الأميركية، لكن هذا الحلف يبدو لكلّ مراقب محور السياسة الدولية والإقليمية منذ أربع سنوات.
استقطب هذا الحلف اهتمام مراكز الدراسات لمواكبة حراكه وأهدافه وتوزّع الأدوار بين أطرافه. واستقراء مسارات النصر والهزيمة في مسار حروبه، والقدرة التي يملكها في السيطرة على المفاجآت والتعامل مع التحدّيات، خصوصاً تلك التي تنتج عن مواجهة ضارية مع حلف واسع يضمّ قوى أشدّ قدرة وأعلى موقعاً تتقدّمها واشنطن وتضمّ حلف الأطلسي وحلفاء إقليميين بوزن تركيا بتطلّعاتها العثمانية، والسعودية بقدراتها المالية، و«إسرائيل» باستخباراتها وجيشها وحجم نفوذها في الإعلام ومراكز الرأي العام في الغرب، ويشكل تنظيم «القاعدة» بمتفرّعات جيشه الخفي. وفي الحرب هذه خطط تشتغل على تضارب المصالح والترهيب والترغيب لفكفكة المتحالفين. وبالمقابل استقطب هذا الحلف اهتمام خصومه وصار همّهم الأول والأخير كيفية إصابته بالوهن أو إنهاكه بحروب الاستنزاف المتعدّدة، أو إرباك أطرافه بتنافس الأولويات وتصنيع الملفات وصناعة التحدّيات، ومواجهة التهديدات والتعرّض للإغراءات.
لغز هذا الحلف أنه خليط عقائديّ غريب عجيب لا يمكن أن يجمعه أيّ مشترك على هذا الصعيد، من روسيا القائمة على مزاوجة وطنية عريقة في مكانتها الإمبراطورية وكنيسة فاعلة وليبرالية وديمقراطية بنكهة سوفياتية، إلى إيران الإسلامية القائمة على مرجعية ولاية الفقيه وسلطات مركّبة منتخبة وعظمة تاريخ حافل حضارياً يتطلّع نحو السطوع من جديد، إلى سورية القومية العربية العلمانية المتطلّعة إلى قيادة وضع عربيّ متشرذم ومفكّك وتابع وضعيف رغم مقدارت هائلة وجغرافيا مفصلية وتاريخ مجيد، وصولاً إلى حزب الله الجامع لعقائدية إسلامية ووطنية وعروبة في قلب روح مقاومة في مواجهة أعتى قوّة في المنطقة تمثّلها «إسرائيل». ولغز هذا الحلف أنه في الأهداف الاستراتيجية السياسية بعيداً عن العقيدة، لا تجمعه التطلّعات، فروسيا العاملة لاسترداد مكانتها الدولية وتعظيمها غير إيران المتطلّعة إلى عالم إسلامي يلعب دوراً قيادياً محورياً بين التجمّعات والدول العظمى بعدد سكانه وحجمه جغرافياً واقتصادياً وعسكرياً، وكلاهما غير سورية المتطلّعة إلى وحدة عربية تتوسّط القارات كلاعب لا كملعب، فيما قضية حزب الله زوال «إسرائيل» وإنهاؤها ككيان احتلال وعدوان. وفوق عدم التجانس والتشابه في العقائد والأهداف ثمة من يراهن على تضارب الأهداف التكتيكية برؤية كل نموّ لفريق من الحلف وتعاظم لقدرته فرصة لفكّ التحالف مع الشركاء، سعياً إلى رسملة سريعة لحسابه الخاص. ومن يرى التضارب في الأهداف النهائية لكلّ طرف سبباً كافياً لزرع الشكوك والمخاوف من أن تصبّ الإنجازات المشتركة الماء في طاحونة أهداف أحد الشركاء بنسبة أكبر فتجعله أقل حماسة لمواصلة الشراكة.
خلال خمس سنوات من حرب لا مبالغة بوصفها بالعالمية، نجح هذا الحلف في تخطّي الصعوبات وإثبات الحضور والقوة والصمود في وجه الضغوط ومواجهة التهديدات، والتماسك في وجه الإغراءات. ونجح في تحقيق الإنجازات، وبدأ يتحوّل إلى قطب صناعة الأحداث بعدما استردّ زمام المبادرة من أيدي خصومه وفرض عليهم الانتقال من الهجوم إلى الدفاع، وتالياً إلى تحديد الخسائر ثم التضارب في الأهداف، والتفكّك والتشتّت، ولاحقاً البحث في الانخراط المتفاوت مع أطراف هذا الحلف في تفاهمات أو تسويات. وكان لافتاً نجاح هذا الحلف في قطف ثمار تقدّمه بتسويات لصالح أطرافه كالتسوية الأوكرانية. والأهمّ التفاهم على الملف النووي الإيراني. وبدلاً من أن تضعف حماسة درجة انخراط المعنيين مع حلفائهم وترسمل الحلف بهذه الإنجازات مزيداً من القوة، ورغم كل العروض التي انهالت على الأطراف ليبيع أحدها الآخر، وخصوصاً روسيا وإيران وسورية، كان يقين الحلفاء أن التماسك هو الطريق الوحيد لعدم تضييع التضحيات ومواصلة السير نحو المزيد من الإنجازات.
النظر في عناصر قوة هذا الحلف تتيح رؤية قيمة العقول الاستراتيجية التي تقود أطرافه وتدير حروبه، وحجم التفهّم والمرونة في التعامل المتبادل مع عناصر الخصوصية، على قاعدة إدراك وتلاقٍ حول ثلاثة مفاهيم رئيسة. الأول أنهم يخوضون حرب وجود لا مكان فيها للمساومة والتراجع، وأن التراخي سيقلب المعادلات وبسرعة في وجوههم، وهم يعرفون أن واشنطن التي تدير الحرب عليهم لا ترحم ولا تصدّق ولا ثقة بعهودها إن تلمست مصادر قوّة، وأنّ ضمانتهم الوحيدة إلحاق المزيد من الضعف بها، وأن القاعدة التي تشكّل الجيش السرّي لهذا الحلف إن تجذّرت في أيّ جغرافيا قريبة ستنال من أمنهم جميعاً. والثاني أنهم حلف القرار الوطني المستقل الذي يصوغ لكل طرف خصوصيته الثقافية، وأن الدفاع عن الاستقلال الوطني في وجه مشروع الهيمنة كقضية جامعة يستقيم بالتصالح مع حقيقة تفاوت مخرجات هذا الاستقلال الوطني لكلّ شعب ولكلّ دولة. والثالث أن العالم التوّاق إلى الانتفاض على مشروع الهيمنة والتفرّد والأحادية، وقد ضاق بها ذرعاً ينتظر أملاً بحلف يقوم على عدم الخداع والمكر والاستغلال والاستخدام، يمكن الوثوق بصدقية أطرافه وثباتها، وأن المصلحة كأساس في السياسة تستطيع أن تكون مصلحة إثبات الأهلية لنيل ثقة الغير وتقبّل خصوصيته والوفاء بالحقوق المترتّبة له من كل شراكة. فهذا رصيد طويل الأمد في السياسة ورصيد مستدام الأرباح في الاقتصاد، ورصيد تاريخي في صناعة الحضارة..
ناصر قنديل
ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.