الحكومات السورية المتعاقبة… وغياب آفاق الإبداع السياسي!
الحكومات السورية المتعاقبة…
وغياب آفاق الإبداع السياسي!
كثير من المتابعين، حتى السوريين منهم، لا يدركون جيداً الخريطة السياسية للحكومات السورية تاريخياً، ولا يعرفون كامل الانتماءات السياسية لكثير من الوزراء والوزارات، حتى أن كثيرين منّا لا يعرفون الآلية التي تتشكل فيها ومن خلالها هذه الحكومات، وهي آلية مضى عليها أكثر من أربعين عاماً، كون أنّ هناك تقصيراً سياسياً وإعلامياً في تظهير هذه الخريطة، وتظهير الانتماءات السياسية للوزراء الذين يشكلون الجسد الحكومي في الدولة السورية، وهو الأمر الذي أدى إلى ظلم في أحيان كثيرة لـ “حزب البعث العربي الاشتراكي”، من خلال تحميله كامل وزر الحكومات السورية حين غابت عنها آفاق الإبداع السياسي!.
لم يستطع المثقفون السوريون من تسويق هذا المنجز السياسي الهام، ولم يستطع الإعلام أن يحاكي هذه العملية السياسية المتقدمة التي تعيشها الدولة السورية، ولا يعلم كثير من السوريين وغير السوريين، حتى المثقفين منهم، كما السياسيين أيضاً، أنّ أغلب الوزارات المسؤولة عن الشأن العام في الحكومات السورية المتعاقبة كانت تابعة لأحزاب غير “حزب البعث”، ومنها وزارات هامة جداً، تشكل مفاصل رئيسية في جسد الدولة، فوزارات مثل “الإسكان، الثقافة، الاتصالات والتقانة، الإنشاء والتعمير، الصحة، الشؤون الاجتماعية، الموارد المائية، الأوقاف، التجارة الداخلية وحماية المستهلك، العدل، النقل، الصحة، البيئة، المغتربين، المصالحة الوطنية…” كانت وما زالت وفي أغلب الأحيان تابعة لأحزاب غير “حزب البعث”، كما أنّ هناك شخصيات مستقلة شغلت وما زالت تشغل بعض هذه الوزارات.
إن هذا التعتيم على هذه الخريطة وهذا الإشغال لهذه الوزارات عمل على تراجع وانقباض الجدل الإيجابي في تظهير العمل السياسي الوطني الذي يساهم في إيجاد مساحات منافسة حقيقية في مشهد العمل السياسي الكلي، وعمل على تقديم العمل السياسي ضمن خرائط الحكومات السورية المتعاقبة على أنّه عمل وظيفيّ ضيّق، لا يرتقي لمستوى عمل سياسي وطني نافذ، أو إلى اختلاف رؤى تعكس انتماءات سياسية متباينة.
لقد بقي “الجسد الحكومي” يعكس واقعاً سياسياً جامداً وصامتاً، تحت ذريعة عناوين عدة، في حين أنّ هناك إشارات وافية تحدّد الرؤية التاريخية للرئيس الراحل حافظ الأسد، تؤكد هذه الإشارات على أنّ المساحات في “الجسد الحكومي” التي نالتها بعض الأحزاب الأخرى، إنما هي مساحات فاعلة لتمارس هذه الأحزاب رؤاها السياسية الوطنية في إدارة وتحريك وقيادة هذا المفصل أو ذاك، كما أنّ هناك لحظات مهمة في إدارة تشكيل هذه الحكومات، خصوصاً في ظل قيادة الرئيس بشار الأسد، كانت تحمل دلالات موضوعية لجهة أن تمارس هذه الأحزاب دورها الحقيقي في إغناء البناء الوطني، ناهيك عن إشراف بعض قيادات هذه الأحزاب على مئات المشاريع من خلال وزارات الدولة التي كان يشغلها بعض ممثلي تلك الأحزاب.
إنّ جزءاً رئيسياً من الجدل السياسي غاب في ظل هذا المشهد، كما أنّ هناك ضغطاً هائلاً حصل على عنصر التنافس السياسي والوطني، على رغم أنّ البعض يسوّق لهذا المفهوم على أنّه عنصر إيجابي في عمل الحكومة الجمعي، إلا أنّنا نرى فيه تراجعاً مهماً للعمل السياسي الصرف، الذي يحدث نوعاً من الخصوصية التي تفرز وتظهر عملاً عن آخر، وتحدث تبايناً إيجابياً لقوى على أخرى، وهو ما يمكن صرفه وطنياً وسياسياً في دفع وتظهير الحراك السياسي الذي يغني التدليل والتأكيد على جملة رؤى سياسية واقتصادية واجتماعية من دون أخرى.
لم تستطع الحكومات السورية المتعاقبة أن تضيف هذه الأساسية التي تدفع العمل الحكومي، وتحدث فيه تبايناً لمصلحة الدولة والمجتمع، كون أن هناك روحاً راكنة وساكنة لم تكن حاضرة في سيرورة هذه الحكومات، الأمر الذي أدى إلى غياب عناصر فريدة ومهمة في منتج العمل الحكومي، والتي كان يمكن لها أن تأخذ العمل الوطني إلى مساحات أخرى مفيدة.
كما أنّ هناك حكومات عايشتها جيّداً لم تكن تمتلك عقلاً جمعياً ناجزاً بالشكل الذي كان مفروضاً أن يكون عليه هذا العقل، حيث انحصر المنجز الحكومي في التصدي لعناوين تتعلق بفعل “المياومة” المشغولة بمستويات ليست خلاقة، إلا في اللحظة التي يتقدم بها الرأس الدستوري لهذه الحكومات، ونعني به مقام “رئاسة الجمهورية”، حيث يظهر المنجز عندها ويبدو تدخل الرأس فيه واضحاً جداً، لجهة التطلعات الاستراتيجية المؤثرة في صيرورة عمل تلك الحكومات والأهداف الكبيرة لها.
يقرأ هذا الأمر جيداً في العقلية المهنية التي حكمت المشهد السياسي في هذه الجزئية، حيث غاب كل السادة الذين ترأسوا هذه الحكومات بعد انتهاء رئاستهم لتلك الحكومات، وتحوّلوا إلى أفراد عاديين جدّاً في حياة السوريين، إذ أننا لم نشهد القامات الوطنية الحاضرة والمشدودة إلى عناوين وطنية صرفة، أو إلى عناوين سياسية تعكس الأرضية التي جاء منها هؤلاء، وهذا يعكس العقلية التي كانت تدير وتقود هذه الحكومات، كما أنّها تعكس الثقل غير الموضوعي الذي أدى إلى دفع هؤلاء كي يكونوا في رأس هذه الحكومات.
كما أن الأشخاص الذين ملأوا الشاشات الوطنية خلال وجودهم على كراسي وزاراتهم غابوا تماماً مجرد أن أصبحوا من دون هذه الكراسي، حتى أنّهم تبخروا خارج الوعاء السياسي والوطني، ولم يعد أحد منهم يُذكر، لا من خلال رأي أو موقف أو مقال أو لقاء أو إطلالة أو حتى ندوة أو منتدى، وهذا كان واضحاً جيداً وذا دلالة مهمة وخطيرة خصوصاً في السنوات الأخيرة من العدوان على الوطن السوري، فقد بدا هؤلاء خارج المشهد الوطني العام للدولة والمجتمع.
بقي أن نضيف أمراً نزعم أنّه مهم، وهو أنّ تلك المقدمات لم تكن معزولة أو مفصولة عن عقلية غير قادرة على الإبداع، وغير قادرة على التجلي الذي حكمت جزءاً يسيراً منها، وخلال فترات متفاوتة، إذ أنّه لا يغيب عنّا أنّ حكمنا ووصفنا السابق لم يكن عاماً وشاملاً، كون أنّ البعض اليسير واليسير جداً من أولئك الذين ملأوا المشهد الوزاري تاريخياً ظلّوا حاضرين وموجودين، وأضافوا إضافات باهرة، لكنّهم ظلّوا يشكلون حالات طارئة وناتئة، لكنّها مهمة لجهة البرهان على أنّ البيئة السياسية للدولة لم تكن مانعة مثل هذا الحضور وهذا الدور، ولم تكن تحول دون وجود استرداد مثل هذه القامات دورها الفاعل بعيداً عن مواقعها الرسمية!