انقطاع التواصل بالتواصل

محمّد فرحات

انطلق الأب رب المنزل إلى عمله والأبناء إلى مدارسهم وجامعاتهم وبقيت الأم في المنزل تقوم ببعض الأعمال. كان الأب يتبادل مع الأم الأحاديث عبر وسائل التواصل واتساب أو فايسبوك وكانت تضحك في المنزل وحدها بين الحين والآخر، كلما نظرت إلى هاتفها المحمول. الابن يطلب من أمه أن تحضر له ثيابه لموعد مسائي، في حين تسأل الابنة عن الطبخة اليومية.

بعد اجتماعهم مساءً داخل غرفة المعيشة، لا يعود للتواصل «الواتسابي» بينهم أي أهمية، ورغم أنّ مكاناً واحداً يجمعهم، يختلي كلّ فرد بهاتفه يتواصل مع أصدقائه عبر وسائل التواصل المتنوعة. يدردشون ويتبادلون العتاب على عدم وضع «لايك» على صورة قد نشرها أحد أصدقائهم، ويرتسم على وجه كلّ فرد من أفراد الأسرة تعبير خاص بحديثه لتكون النتيجة اجتماع العائلة جسدياً في غرفة واحدة، بينما لكلّ منهم عالمه الخاص، فينعدم بذلك التواصل الاجتماعي الطبيعي بينهم.

من هنا دخلت العولمة في تفاصيل كلّ أسرة وبيئة محلية، وهي التي تُعرَّف بأنها كناية عن نشر الأفكار والنظريات والممارسات من خلال عوالم التجارة والثقافة والمجتمع، لكنّ الأفكار والثقافات التي تُنشر هي أفكار وثقافات المجتمعات المُهيمنة، وغالباً ما ينتج عن ذلك فقدان التنوع وفرض الأفكار والقيم والممارسات على الآخرين، وهي غالباً ما تكون غير مناسبة لمتلقيها.

ويرى الكاتب والمفكر الأميركي آلفن توفلر الذي تبنى العام 1970 مقولة موت الجغرافيا في كتابه «صدمة المستقبل»، أنّ تطور تكنولوجيات النقل والاتصال وتدفقات الأشخاص المكثفة التي نتجت عن ذلك يعني أنّ المكان لم يعد المصدر الرئيسي للتنوع.

إننا نعيش في عالم لم يحلم به أجدادنا فالأسرة كانت هذه النواة التي تعمل سوياً في الأرض لتعود مساءً مع المحاصيل لكافة الأسرة وتجتمع لتبادل الأحاديث والأفكار المحلية ويتم لقاء واحد أسبوعياً مع أهالي المحلة أو القرية للاستماع إلى «الحكواتي» الذي يُعتبر، بدوره، ناقلاً للأحاديث والأخبار والثقافات. بعد ذلك بات نقل الثقافات والعلوم بواسطة الاستعمار أي بفرض ثقافة الإمبراطورية المستعمرة على العالم، فنذهب بعد الانفلاش إلى تهميش ما يعتبر ثقافة خاصة، وبالتالي ذوبانها في ثقافة معولمة لا شأن لها إلا الاجتهاد في دروب الاستهلاك.

إذا أردنا الدخول جزئياً في موضوع الثقافة فإنّ ذلك يتطلّب منا البحث في ما ورائيات هذه الظاهرة والهدف منها، وهذا يتطلب، بدوره، وعي أهمية القراءة والتخطيط لها للوصول إلى إغناء المعارف والدخول بواسطتها إلى قلب العصر عن طريق القراءة ذاتها. وهذا ما عبر عنه الدكتور عاطف عطية في كتابه «دراسات في سوسيولوجيا المعرفة والثقافة».

فالقراءة لدينا، أي في الدول المشرقية، تظهر من خلال تقرير التنمية الإنسانية العربية 2002 الذي توقع ألا تختفي الأميّة بين الذكور قبل حلول عام 2025 وبين الإناث قبل 2040، أو من خلال تقرير التنمية الثقافية 2002 الذي أظهر أنّ كمية الكُتب المنشورة في العالم العربي الذي يعدّ 330 مليون نسمة تبلغ ربع ما تنتجه ألمانيا بعدد سكان يبلغ 82 مليون نسمة، ونصف ما تنتجه إسبانيا ذات 43 مليون نسمة.

من المهم هنا التشديد على أنّ ضعف المستوى التعليمي المُصاحب لانتشار القيم التقليدية في المُجتمع يُساهم في الحفاظ على الوضع القائم وإبقاء مستوى التعليم على حاله، يعدّ استراتيجية فعالة في أيدي السلطات الحاكمة لدول المشرق للحفاظ على بقائها من دون خلق أي إمكانية للتغيير.

إنّ معارض الكتب في العالم العربي أصبحت للترفيه، فكيف يمكن لهذا المجتمع أن يتطور مستقبلاً في عصر العولمة؟ وكيف له أن يحتلّ موقعاً في هذا العالم؟

في المقابل، نجد أنّ القراءة في الدول المتقدمة هي في صميم يوميات الناس، وحين تتنقّل مثلاً بالقطار من منطقة إلى أخرى في تلك الدول، فإنك تشاهد أكثرية الموجودين داخله يحملون كتباً يطالعونها، والأمر نفسه في المقاهي. هكذا تمّ بناء تلك المجتمعات المدنية بعد الثورة الصناعية والثورة الفرنسية، وتمّ إنتاج ثورة فكرية استطاعت الدول المتقدّمة عبرها السيطرة على العالم ونشر ثقافاتها بسهولة، خاصة بعد انتهاء عصر الاستعمار المادي والانتقال إلى عصر الاستعمار الثقافي، عبر العولمة ووسائل التواصل المتطور.

تضعنا هذه الإشكالية أمام واقع لا نمتلك القدرة على رفضه أو الوقوف في وجهه، فإما أن ننخرط فيه، وبالتالي نتلقى الثقافات ونستهلكها، أو أن نواجه هذه الظاهرة بالانطواء دينياً، وهنا نكون أمام واقع خطير من التشدّد الديني.

وبالعودة إلى نقطة البداية، فقد أصبح التواصل «الميديائي» واتساب وفايسبوك وغيرهما هو الواقع الذي يتحكم بيومياتنا، وصار بديلاً حتى عن واجباتنا التي كنا نعتبرها من الأمور التقليدية التي يصعب التخلي عنها، فقد أصبحنا نهنئ ونقدم واجب العزاء ونتبادل المعايدات في المناسبات المختلفة عبر وسائل التواصل.

من تفكك التواصل الاجتماعي الأسري مروراً بالتفكك العائلي وصولاً إلى تفكك المجتمع وحصر التواصل والتفاعل بين الناس بعالم افتراضي، نكون قد فقدنا الكثير من امتيازاتنا وخصائص مجتمعاتنا. وهنا لا بدّ من التساؤل: ما العمل لردم الهوة بين المثقف والمجتمع؟

ماذا الذي يجب فعله من أجل انخراط المثقف في قضايا مجتمعه والتفكير فيها ومعالجتها قولاً وعملاً؟ هل يمكن القول إنّ وراء كلّ تواصل إعلامي يكمن سياق آخر أكثر عمقاً هو التواصل الثقافي أم أننا أمام تطور تواصلي افتراضي تفرضه الإمبراطوريات المسيطرة على العالم وتحدّد من خلاله مستقبل مجتمعاتنا بعد سقوط الحتميات؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى