انقلاب تركيا العسكري المقبل

نشرت مجلة «فورين آفيرز» الأميركية تقريراً جاء فيه:

قبل أن تأخذ تركيا منحى سلطوياً تحت حكم الرئيس رجب طيب أردوغان، اعتقد كثيرون أنّ الزعيم السابق لـ«حزب العدالة والتنمية» سيخلّد في التاريخ بوصفه القائد الذي استطاع أخيراً تقليم أظافر الجيش التركي وحلّ النزاع الطويل مع الأكراد. إلا أنّ هذه الآمال تبدو الآن في غير محلّها على نحوٍ شنيع. فقد أعطى أردوغان الضوء الأخضر للجيش لشنّ حربٍ ضدّ المتمردين الأكراد وبنى مع الجنرالات تحالفاً دافئاً. من منظور أردوغان، تضرب هذه السياسة عدّة عصافير بحجرٍ واحد. فالحملة العسكرية على الأكراد تضعف الأقلية الأكبر في البلاد والتي أصبحت تمثّل عائقاً أمام طموحاته في السلطة المطلقة من جانب، وتعزّز من قوّته بين الوطنيين الأتراك من جانبٍ آخر. وعلى الخطّ نفسه، قد يمثّل الأمر دافعاً لتعديل العلاقة مع الجيش بوصفه أداة مهمّة تحت اليد، خصوصاً في ظلّ تنامي المعارضة الداخلية والخارجية التي تحيط به. لكن تقوية الجيش قد تكون في الوقت نفسه خياراً محفوفاً بالمخاطر بالنسبة إلى أردوغان. بل إن هناك من هم في دائرته ممّن يخشون أن النمر الذي يحاول الرئيس ركوبه ما زال بعد سنواتٍ من المعاملة القاسية تحت حكم «حزب العدالة والتنمية» أكثر وحشية وتوقاً للانتقام.

الجيش التركي لديه في الواقع أسبابه لحمل الضغينة تجاه أردوغان. فعلى مدار التاريخ التركي، تمتّع الجيش بسطوة كبيرة على الشؤون السياسية في البلاد، وقد نفّذ أربعة انقلابات عسكرية مجبراً السياسيين على الاستقالة وتعامل مع نفسه دائماً على أنّه الحارس الأوحد للديمقراطية العلمانية الذي لا يخضع للمسائلة. ومنذ وصوله إلى السلطة عام 2002، انبرى «حزب العدالة والتنمية» لتقليص النفوذ السياسي للجنرالات الذي ترك القوّات المسلّحة التركية في حالة ضعف وانقسام. ولتحقيق شروط الانضمام للاتحاد الأوروبي، شرعت أنقرة بإجراءات لجعل الجيش خاضعاً بشكل أكبر للسلطة المدنية. وقلّصت صلاحيات المحاكم العسكرية لصالح المزيد من الصلاحيات للمحاكم المدنية وأصبحت الحكومة تلعب دوراً أكثر فاعلية في تعيين القادة الكبار للجيش. وقد تعرّض الجيش لضربة قوية في نيسان 2007، بعد أن نشر على صفحته الإلكترونية إنذاراً سمّي في ما بعد بـ«الانقلاب الإلكتروني» يحذّر فيه «حزب العدالة والتنمية» من مغبّة دعم عبد الله غول المعروف بانتمائه التقليدي للتيار الإسلامي والذي تلبس زوجته الحجاب في انتخابات الرئاسة. أثار الأمر حينذاك غضب «حزب العدالة والتنمية» وأنصاره ودفعهم إلى تأكيد موقفهم وإيصال غول إلى منصب الرئاسة. وهكذا فمن خلال محاولته التدخل ضدّ الحزب ذو الجماهيرية الكبيرة عرّض الجيش نفوذه لضربة قاسية، وفي أقرب انتخابات بعد «الانقلاب الإلكتروني» ازداد التصويت لحزب العدالة والتنمية بنسبة 13 في المئة.

وفي ذلك الوقت أيضاً، أطلق حلفاء الحكومة في جهاز القضاء من أنصار رجل الدين فتح الله غولن تحقيقات واسعة حول أنشطة ضبّاط الجيش. وفي الدعاوى القضاية مثل قضية «أرغينيكون» وقضية «المطرقة»، التي اتّهم فيها بعض عناصر الجيش بتدبير انقلاب ضدّ «حزب العدالة والتنمية»، حُبس العشرات من الجنرالات واحتُجز المئات من المسؤولين العسكريين المتقاعدين. وقد توّج الصراع بين الحزب والجيش بالاستقالة الجماعية للمجلس العسكري التركي الأعلى في أواخر تموز 2011 وهي الاستقالة التي اعتبرها المراقبون آنذاك علامة فارقة على استسلام الجيش للمدنيين.

رغم ذلك، فإنّ الجيش يستعيد في الآونة الأخيرة شيئاً من الحظ. فمنذ أن أصبح نيسديت أوزيل، أحد الرجال المخلصين لأردوغان، رئيساً لهيئة الأركان، شهدت العلاقات بين أردوغان والقوّات المسلحة التركية بعض التحسّن، على الأقل على مستوى القادة العسكريين الكبار. لكن ذوبان الجليد الحقيقي بين الطرفين حدث عندما بدأ أنصار فتح الله غولن في القضاء بفتح تحقيقات في قضايا فساد طالت عائلة أردوغان ودائرته القريبة. ففي تلك اللحظة، رأى أردوغان الجيش كحليفٍ محتملاً في ما سيصبح حرباً شاملة على أنصار غولن، حليفه السابق. وهكذا، فبعد إيماءة من أحد مستشاري أردوغان المقربين في هذا الشأن، تقدّم الجيش بشكوى يطالب فيها بإعادة محاكمة العسكريين في قضية «المطرقة» التي اتّهم فيها عشرات الجنرالات بتدبير انقلاب ضدّ «حزب العدالة والتنمية». وقد ألغت المحكمة لاحقاً القضية برمّتها مدّعية أنّ الأدلّة التي استندت إليها الاتّهامات السابقة كانت ملفّقة، وحكمت بإطلاق سراح الضبّاط الذين سجنوا على إثرها. وقد جاءت إحدى الإشارات الدالّة على دفء العلاقات بين الجيش و«حزب العدالة والتنمية» مؤخراً مع حضور خلوصي أكار الرئيس الحالي لهيئة الأركان كشاهدٍ شرعي على عقد قران ابنة أردوغان.

لقد أزاح انهيار وقف إطلاق النار بين الدولة و«حزب العمّال الكردستاني» عائقاً آخر شائكاً في العلاقات بين الجيش والحكومة. فقد عارض الجيش على الدوام محادثات السلام مع «حزب العمّال» واتّهم الحكومة بإغماض أعينها عن أنشطته في المنطقة الكردية. وعام 2014، طلب المسؤولون العسكريون تنفيذ 290 عملية عسكرية ضدّ «حزب العمال» في جنوب شرق البلاد لكنّ الحكومة أقرّت ثماني عمليات فقط وهو ما أثار الحساسية بين الطرفين. لكن عودة القتال بين الحكومة والحزب في صيف العام 2015 مهّد الطريق لتحالفٍ أوثق بين الجيش والحكومة. ولا شكّ في أنّ الفوضى التي اجتاحت سورية والعراق والتوتّر الذي تصاعد مع روسيا قد ساهما في عودة الجيش كقوّة وسيطة في الداخل والخارج. وقد راح الإعلام الموالي للحكومة، والذي اعتبر يوماً أنّ المحاكمات ضدّ العسكريين كانت نصراً كبيراً للديمقراطية، يمتدح «الجهود البطولية» للقوّات المسلّحة التركية في التصدّي لأعداء تركيا الداخليين والخارجيين. وفي التفاتة كبيرة لحلفائه الجدد، دافع أردوغان عن العلمانية بعد دعوة مستشاره إسماعيل كهرمان لإزالة أيّ إشارة لها من الدستور التركي.

يراهن أردوغان على أنّ هذه الإشارات سوف تكبح جماح الجيش، لكنّه يلعب بالنار في نفس الوقت كما يرى البعض الذي يخشى أن يعود الجيش لعادته الأثيرة في التدخل في العملية السياسية إذا سنحت له الفرصة. وفي حقيقة الأمر، قد يقلّص نفوذ الجيش لكنّ مسألة إخراجه من المشهد كلياً تبقى غير ممكنة، إذ أنّه ما زال يتمتّع بالاستقلالية المؤسسية. فالكمالية التي تعدّ العقيدة المؤسسة للجمهورية والتي جسّدت لعقود الحصن المنيع ضدّ الأسلمة والنزعة الانفصالية الكردية، ما زالت تمثّل الجوهر الأيدولوجي لمناهج التعليم في الكليات العسكرية والأكاديمية. وقد عارض الجيش دعوة بعض الدوائر الحكومية لالتحاق متخرّجي مدارس «إمام خطيب» ـ وهي مدارس تخصّصية تعدّ الطلبة ليصبحوا دعاة وخطباء يعملون في الحكومة ـ في الكلّيات العسكرية. ويعتقدّ الجيش أن هؤلاء الطلاب قد ينشرون الأفكار الدينية في المستويات المختلفة للقوات المسلّحة التركية وهو ما من شأنه زيادة نفوذ الحكومة على الجيش. وإضافة إلى ذلك، ما زالت الموازنة العسكرية محصّنة بشكلٍ كبير من الرقابة المدنية، ويقوم الجيش منفرداً بمهام إدارة قوّاته. ولعلّه من اللافت أن رئيس هيئة الأركان لا يخضع لسلطة وزير الدفاع وما زال قانون الخدمة العسكرية الداخلي، والذي استخدم للسماح للجيش بالتدخّل في السياسة ساري المفعول. ويوضح القانون أنّ مهمّة القوات المسلّحة التركية تتمثّل في الحفاظ على الوطن التركي والجمهورية وحمايتهما كما هو محدّد في الدستور. وقد استند الجيش إلى هذا المادة كمسوّغٍ قانوني للانقلابات التي نفّذها في الماضي.

لهذه الأسباب، يبدو الجيش غير مهتمٍ بشكلٍ خاص في التدخّل في العملية السياسية، أقلّه في الوقت الحالي. فبعد ردّ الفعل الشعبي على «الانقلاب الإلكتروني» يفضّل الجيش البقاء بعيداً عن السياسة. وقد أصدرت هيئة الأركان مؤخراً بياناً شديد اللهجة تنفي فيه بشكلٍ قاطع الاتّهامات الموجّهة من قِبل بعض الدوائر الحكومية بالتجهيز لانقلاب عسكري. كما أنّها هدّدت باتّخاذ إجراءات قانونية ضد المنابر الإعلامية التي تروّج لأخبارٍ من هذا النوع. فقد اعتمد الجيش دائماً على الدعم الشعبي عندما قرّر التدخّل في السياسة. وقد كان انقلاب عام 1980 الذي يعدّ الأكثر دموية في تاريخ البلاد، مثلاً، يحظى بالدعم الشعبي من الجماهير التي رأت تدخّل الجيش ضرورياً لإعادة الاستقرار إلى البلاد. اليوم، يعرف الجيش بشكلٍ جيد أنّ أي تدخّل ضدّ أردوغان و«حزب العدالة والتنمية» الذي نال حوالى 50 في المئة من الأصوات في الانتخابات الأخيرة سيحظى بالقليل من الدعم الشعبي وسيحطّم جهود الجيش لاستعادة موقعه في المجتمع.

وبقدر ما أن الانقلاب أمرٌ غير وارد في الوقت الراهن، إلا أن هناك سيناريو محتملاً قد يتدخّل الجيش فيه. فالسنوات الـ14 التي حكم فيها «حزب العدالة والتنمية» خفّفت إلى حدّ ما من موقف الجيش تجاه العلمانية، لكن النزعة الانفصالية الكردية لا تزال خطّاً أحمر بالنسبة إلى القوات المسلحة. قد يتدخل الجيش إن وصل الصراع بين «حزب العمال الكردستاني» وتركيا إلى حدّ الخروج عن نطاق السيطرة، خصوصاً إذا أدّى العنف الجماعي في مراكز المدن الغربية إلى انهيار الأمن وحدوث انتكاس اقتصادي كبير، وأيضاً إذا أصبحت الحكومة أكثر استبدادية. ظروف كهذه قد تؤدّي إلى احتجاجات ضخمة مناهضة للحكومة. فإذا كان ردّ أودوغان اتخاذ إجراءات صارمة ووحشية والتسبب بالمزيد من الفوضى وما قد يتبعها من سفك للدماء فهناك احتمال بأن يتزايد المطلب العام لتدخل الضباط لاتّخاذ الإجراء المناسب. وحتّى في ظلّ هذا النوع من السيناريوات الخطيرة وغير المرغوبة، فإنّ الجنرالات قد يفضلون غالباً التدخّل من خلال الوسائل السياسية بدلاً من الوسائل العسكرية كإجبار الحكومة على الاستقالة مثلاً. فقد أصبحت تركيا بتطوّرها السياسي والاقتصادي بعيدة كثيراً عن إمكانية أن تحكم من خلال طغمة عسكرية.

لكن إلى حين حدوث أمر كهذا، فمن المرجح أن تبقى علاقة الجيش والحكومة جيدة. ومن الضروري على كل حال تسليط الضوء على الطبيعة التكتيكية والقيود المحيطة بهذا التحالف فالمصالح المشتركة لهما قد تلتقي الآن، لكنهما يظلان على خلاف في شأن عدّة قضايا. فالاستبداد المتزايد لأردوغان، وتصرفاته المتقلبة في خصوص المسألة الكردية، وسياسته الخارجية العدوانية التي تركز على الشرق الأوسط أدّت جميعها إلى نفور حلفاء تركيا الغربيين التقليديين وأثارت الامتعاض في صفوف القوات المسلحة.

ولذلك، فإنّ أدوغان هو الآخر لم يتخلّ عن تحصين نفسه من الجيش. فقرار الحكومة الأخير بفصل القيادة العامّة لقوات «الجندرمة»، وهي قوّات الشرطة الريفية شبه العسكرية في تركيا، عن هيئة الأركان العامّة وضمّها إلى وزاة الداخلية، تعدّ محاولة لملء صفوف الدرك بأنصار «حزب العدالة والتنمية» وخلق توازنٍ في مواجهة قوّة الجيش. وفي نهاية المطاف، وحدها المسألة الكردية هي التي ستحدّد، ليس فقط المسار المستقبلي لهذا الزواج القائم على المصالح، ولكن على دور الجيش في السياسة التركية أيضاً.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى