هل تنتج الانتخابات البلدية الأخيرة دراسة معمّقة للآتي من الأيام
د. سلوى الخليل الأمين
انتهت الانتخابات البلدية والاختيارية في لبنان على واقع أمني سليم، لكن لم تنته على واقع سياسي آمن للبعض ممن علت أصواتهم صعداً منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري طلباً للثأر والانتقام، ممّن تسبّب بالاغتيال أو افتعله أو خطط له ونفذه كما ادّعوا، بحيث أصبحت شهادة الدم قميص عثمان يلبسها كلّ من وجد في نفسه الأهلية لتبوء مركز ما، في مواقع الدولة المنهارة، الممدّدة لسلطاتها دون وجه حق دستوري، ودون أيّ احتساب لغضب الشعب ومحاسبته، الذي كشفته الانتخابات البلدية والاختيارية بنسب لم تتجاوز الـ50 بالمائة، رغم التفوّق الإعلامي للوائح السلطوية المنظمة من الأحزاب والتيارات والكتل السياسية المتمدّدة بالطول وبالعرض على مساحة الوطن، القادرة والمقتدرة على حشد المناصرين وضخّ الأموال اللازمة، التي تمّ الاتكال عليها لشراء ضمائر الناس، دون أيّ اعتبار لمعاناة الفقير والعاطل عن العمل والإنسان المضطهد الذي يموت طفله على ابواب المستشفيات، دون أن ترفّ أجفان حيتان المال، الذين ظنّوا أنّ نجاحهم في الانتخابات، أكانت بلدية أو نيابية في ما بعد، سيأتيهم على طبق من ذهب، متجاهلين أنّ هذا المواطن قد ينتفض حين يزداد قهره وظلمه، فيقلب لهم ظهر المجن.
لهذا لم تدرج في أجندات أولي الأمر ومستشاريهم الأذكياء قدرة الشعب على المحاسبة وتمكنه من إسقاط لوائحهم أو اختراقها، ربما بسبب جهلهم بفنّ اتقان الحفاظ على التأييد الشعبي المطلوب، خصوصاً الطبقات الشعبية الكادحة والطبقات الاجتماعية المثقفة والواعية، حيث الأولى حاسبت في الصناديق وبيّنت أنّ الدولار لا يعني تخليصهم من اشتهاء لقمة العيش، وتأمين قسط التعليم لأولادهم والاستشفاء وثمن الدواء، إلى ما هنالك من مستلزمات العيش الكريم، الذي لم يتمّ وضعه في سلّم الألوليات عند جامعي الثروات من دول الخليج وغيرها، وإنْ بأساليب مستهترة بكرامة الفقير التي لم تعد خافية على أحد، والثانية التي استنكفت عن المشاركة لعلمها أنّ سرقة المال العام عبر تفريغ خزينة الدولة، والاستيلاء على شواطئها ومشاعاتها وممتلكاتها، إلى جانب الاختلاف على استخراج النفط والغاز، والخلاف الوزاري على السدود التي توفر الماء والكهرباء، وبالتالي تخفف عبء الفواتير التصاعدية التي يؤدّيها المواطن إلى الدولة دون وجه حق في معظم الأحيان، ما هي إلا سياسات خاطئة معيارها الاستهتار بثقافة الناس ووعيهم وإدراكهم وحرصهم على لقمة عيشهم ورتبهم ورواتبهم، وقد بدا ذلك واضحاً خلال الانتخابات البلدية والاختيارية، عبر إعلان النفير العام بجرس إنذار لا يمكن للمسؤولين بعد اليوم تجاهل قوة صوته، التي أصمت آذانهم عن قرب وأيقظت عقولهم على ما أظنّ وتظنّ الأغلبية من الشعب المقهور، مما سيدفعهم إنْ عاجلاً أو آجلاً، وإنْ بغير إرادة منهم، إلى تغيير خططهم العرجاء وأساليبهم المنفرة باستغباء الناس واحتكار الوظائف الحكومية لهم ولأتباعهم، كما خصخصة المال العام الذي يوزع على البلديات بناء لحسابات سياسية بعيدة كلّ البعد عن خطط التنمية المطلوبة مهنياً وزراعياً وصناعياً وتربوياً، التي تجعل المواطن ثابتاً في أرضه ومنطقته، وبالتالي غير مضطر حين حلول الانتخابات إلى دفع فواتير البنزين المكلفة أو استئجار وسيلة نقل لا يملك أجرتها، من أجل نقله إلى بلدته بغاية انتخاب أشخاص، يتمّ فرضهم بقوة التحالفات السياسية البعيدة كلّ البعد عن الأخذ بعين الاعتبار آراء من هم الأساس في بناء الأوطان، وأقصد أهل المعرفة والتنوير والنهضة والتطوير، الذين هم من الطبقات الكادحة المستقلة، المؤمنة بقيامة وطن مدني علماني حرّ وسيد ومستقل.
فلو عدنا قليلاً إلى الوراء في عملية استعراض لما أنتجه رجالات السياسة في لبنان، الذين تولوا أمر الناس منذ انتهاء الحرب الأهلية، لوجدنا انّ الصفحات سوداء، وأنّ الوطن كان في آخر الصفحة من اهتماماتهم، حين كلّ جهودهم منصبة على تهديم الإدارة العامة وإغراق الوطن في الدين العام المهلك، والسطو على الثقافة واتحاداتها، والموافقة على محكمة دولية تمتصّ مال الشعب، وعدم تأمين البطاقة الصحية للاستشفاء إضافة إلى كلّ مستلزمات العيش الكريم، لدرجة أنّ محو الطبقة الوسطى كان من جملة مخططاتهم الشيطانية ناهيك بإهمال الطبقة العاملة التي أجبرت العديد من شباب الأحياء الفقيرة بالانتساب إلى داعش والنصرة وجمعيات التطرف الطائفي والمذهبي وغيرها من المنظمات الإرهابية، التي رفعت راياتها في سورية الشقيقة تطرفاً وتمذهباً وشدّ عصب طائفي التجأ إليه الفقير والعاطل عن العمل من اجل سدّ الجوع، الذي افتعله أهل السلطة الميامين ضدّ بلدهم لبنان والبلد الشقيق سورية.
إنّ الحقيقة لم تعد خافية على أحد وقد كشفتها الانتخابات البلدية والاختيارية، عبر إحجام أغلبية الناس من الطبقات المجتمعية والثقافية والمعرفية بمختلف اختصاصاتهم وأدوارهم ومكانتهم في المجتمع عن المشاركة في انتخابات معلبة ومرسومة لمن هم في السلطة وأذنابهم من المؤيدين، الذين أسقطوا غضب الفقراء من حسابات الربح والخسارة، متناسين قدرتهم على شق عصا الطاعة ورفعها في وجه حيتان المال الواثقين بموارد خزائنهم، كما جرى في طرابلس.
لقد أثبتت الانتخابات البلدية بالفعل، فشل تجار السياسة بمختلف توجهاتهم وأفكارهم الهمايونية، التي يستعملونها لجذب الضمائر بعيداً عن الانتماء الوطني، حيث تبيّن أنّ الجميع يغنّي على ليلاه، وانّ الوطن وناسه هم في أسفل السلّم من اهتمامات أهل السلطة، وأنّ الوصولية والمنفعة الخاصة والفساد والإفساد والسرقات المنظمة القائمة على الخلافات السياسية المنكرة باتت مكشوفة، وأنه من المستحيل «عودة حليمة إلى عادتها القديمة» كما يقول المثل الشعبي، لأنّ الشعب بات قادراً على مقارعتهم بدليل ما حصلته من نتائج في الانتخابات البلدية، القوى الشبابية والحزبية العلمانية، التي خرقت المحظور عبر صوتها الذي ارتفع عالياً وحصد ما يستحق في بداية المشوار.
هذا ما تمخّضت عنه الانتخابات البلدية والاختيارية في لبنان، حين رفع الشعب عصا المحاسبة ولم تكن النتائج في بيروت وصيدا وطرابلس، وحتى في بعض البلدات مرضية أو بحجم النسب المطلوبة لتكريس زعامات حقيقية، يخضع لها الناس على طريقة «مكره أخاك لا بطل». إضافة إلى ما حصل من تفكك في الصف الواحد وأعني في صفوف فريق 14 آذار، الذي يعاني اليوم الآمريْن من تقطيع أوصاله حين وزير الداخلية المعيّن من قبل سعد الحريري يصبّ اللوم على السعودية التي هي المحرك الأساس للسياسة التي ينتهجها الشيخ سعد، وهنا الطامة الكبرى، حين بعض الأفرقاء من الطائفة السنية الكريمة كلّ يغنّي على ليلاه أيضاً، وكل واحد منهم يحلم برئاسة الحكومة، ويعتبر نفسه جديراً بها، عوضا عن الشيخ سعد الحريري وريث الدم كما يقال، الذي ترك الوطن وجماعته بين أيدي من تناتشوا إرث والده وهو الوارث الحي…
فأيّ يكن الرأي بالنسبة لما حدث، فالواقع يثبت الحقيقة، والحقيقة هي أنّ المال لا يصنع زعامات وأنّ السرايات والعجرفة على أبناء الوطن، أيّاً كانت مواقعهم ومستوياتهم، لا تجوز، ما دام السياسي لا يمكن له تولي زمام الأمر إلا بأصواتهم التي لا تخزن في المصارف، ولا يمكن المتاجرة بها ساعة يشتهي المسؤول، وأن المتاجرة بشهادة الدم لم تعد مقبولة، وقد بات أمرها مفضوحاً وواضحاً، خصوصا لجهة متاجرتهم بأعصاب الناس وضمائرهم وعقولهم، وأنّ السيف بات مسلطاً على رقابهم جميعاً، إنْ لم يتداركوا مصائب الناس ومعاناتهم بكلّ مستلزماتها وطرقها.
لقد اختار الشعب من هم نقيض الموجودين ولوائحهم المفبركة، لا حباً بالشخص الذي هو ليس بأفضل منهم تطرفاً ومعاداة للعرب ولسورية وللمقاومة ولقضية فلسطين، لكن لمجرد الإعلان أنّ هذه الفئة من الناس قد أعلنت النفير العام للمحاسبة، مهما بلغت سطوة المسؤولين وقدرتهم على إهمال الرأي الآخر.
رئيسة ديوان أهل القلم