الوجه الآخر لـ«الشرق الأوسط الجديد»: سيناريو الضعف والاستنزاف
ميشيل حنا الحاج
المخططون للشرق الأوسط الجديد، فشلوا في تحقيقه رغم حرب عام 1991 وغزو العراق عام 2003. فقد أخفقوا في تفتيت دول المنطقة وخصوصا العربية منها.. الى دويلات، لكنهم نجحوا لاحقاً في تنفيذ الهدف الجوهري للمخطط، وهو حماية دولة «اسرائيل» باعتبارها الجناح الآخر لطير اسمه «أمن أميركا وإسرائيل».
فاذا كان الهدف من وراء تجزئة تلك الدول الى جزئيات هو حماية مصادر النفط وضمان أمن اسرائيل، فإنّ الاعتماد على نفط الشرق الأوسط بات تدريجياً، وخصوصاً مع مطلع العقد الأخير من القرن الحالي، أمراً غير جوهري، نظراً لظهور آبار نفط جديدة في كندا وفي الولايات المتحدة، اضافة الى الشروع باستخراج الزيت الصخري الأميركي بكلفة أقلّ، وظهور حاجة أقلّ لاستخدام الوقود السائل نتيجة تطوير سيارات الهايبرد التي تسير بالبطارية دون حاجة، في أكثر الحالات، لاستخدام الوقود السائل، مع وجود احتمال بأنّ دراسات سرية تجري لتسيير الدبابات أيضا دون استخدام الوقود السائل أسوة بسيارات الهايبرد. وعجل في ذاك الاتجاه أيضاً، انخفاض سعر برميل النفط، مما جعل مواصلة الاستثمار في نفط الشرق الأوسط، استثماراً غير مجد.
وهكذا لجأ المخططون للاستراتيجية الأميركية، الى التركيز على حماية المصلحة الأخرى الهامة من وراء مشروع الشرق الأوسط الجديد، وهي حماية أمن اسرائيل. فعلى ضوء تلك الرؤية، يمكن تفهّم وتبرير «الربيع العربي» الذي هبّ فجأة كعاصفة غير ربيعية على العالم العربي، متسبّباً بشلل لمصادر القوة العسكرية فيه، والتي كان بوسعها وحدها مستقبلاً، تهديد أمن اسرائيل واستقرارها.
فمع ارتباط مصر باتفاقية كامب ديفيد التي غلّت يديها عن المشاركة في القتال مستقبلاً اذا ما شبّت حرب أخرى ضدّ اسرائيل، فانّ القوتين الوحيدتين اللتين بقيتا قادرتين على مواجهة اسرائيل هما سورية والعراق، اضافة الى السعودية بشكل خاص، أو دول الخليج بشكل عام، وهذه كلها باتت منشغلة بحروب عبثية نتيجة وإفرازاً للربيع العربي العتيد، وما رافقه من ظهور «الدولة الاسلامية ـ داعش» التي شكلت قوة أخرى مشاغلة لتلك الدول العربية.
فالقوات السورية باتت ومنذ خمس سنوات، منشغلة في قتال عبثي أحيانا ضدّ المعارضة السورية المسلحة، وضدّ الدولة الاسلامية ـ داعش أحياناً أخرى، إضافة الى انشغالها ببعض التوترات مع تركيا الأردوغانية. والقوات العراقية المسلحة الجديدة التي أنشئت لتقوم مقام الجيش العراقي الأصيل الذي حله بول بريمر منذ عام 2003، منشغلة من ناحية بمشاكل داخلية غالباً ما تثار بين طائفتي السنة والشيعة، ومنشغلة أيضاً بالتفجيرات اليومية القاتلة هنا وهناك، اضافة الى مقاتلة «الدولة الإسلامية ـ داعش المتواجدة في الموصل وكذلك في الفلوجة بعد أن طهّرت الأنبار منهم في كلّ من هيث والرطبة والرمادي.
أما الحكومة العراقية، فمنقسمة على نفسها بين حيدر عبادي، وسليم الجبوري وراف سنجاني ومقتدى الصدر، والسيستاني، وغير قادرة نتيجة تلك الخلافات، على تشكيل حكومة جديدة… حكومة تكنوقراط، تضع حداً للفساد المستشري، وتستطيع ادارة البلاد بعيداً عن المحاصصة الحزبية أو الطائفية. فحتى معركة حاسمة ومفصلية قائمة في الفلوجة، لم تستطع أن تفرض تشكيل هذه الحكومة التي بات العراق بحاجة ماسة اليها، وخصوصا أنه مقبل بعد معركة الفلوجة، على معركة أكبر هي معركة تحرير الموصل.
ولم يختلف الأمر بالنسبة لليبيا، وكذاك في اليمن التي شوغلت فيها القوات الخليجية وخصوصاً القوات السعودية منها، المنشغلة أيضاً بالحرب في سورية القادرة من حيث المبدأ اذا حسنت النوايا، لأن تشاغل القوات الاسرائيلية اذا وقعت حرب أخرى معها.
أما مصر وتونس، مع عدم تناسي لبنان الذي يعاني من فراغ دستوري رئاسي ، فمنشغلتان بالخطر الليبي القابع على حدودهما، وكذلك بخطر الأعمال الإرهابية التي عانت منها تونس في متحف باردو وبن قردان وغيرهما من المواقع، كما عانت منها مصر ولا تزال تعاني، وخصوصاً من ضربات بعضها موجع في سيناء، وأخرى في القاهرة ومدن مصرية أخرى، مما يلغي ولو الى حين، أي دور محتمل لمصر أو لتونس اذا ما وقعت حرب جديدة مع «اسرائيل».
وهذا يعني بكلّ بساطة، أنّ خطر التقسيم ربما تضاءل ولو الى حين، وحلّ محله خطر الاضعاف والاستنزاف الذي بشر به هنري كيسنجر منذ ستينات القرن الماضي، عندما ارتفع سعر برميل النفط بنسبة كبرى وملحوظة اثر حظر تصدير النفط في عام 1973 الى الدول المؤازرة لاسرائيل، مما تسبّب بتدفق أموال كبيرة من العملات الصعبة الى خزائن بعض الدول العربية. ولم يجد كيسنجر وسيلة لاسترداده الى خزائن الدول الغربية، وخصوصاً الأميركية منها، الا بإشعال حروب الاستنزاف التي تؤدّي الى تصعيد كميات بيع الأسلحة مرتفعة الثمن. وبدأ بتنفيذ تلك الاستراتيجية المستندة الى ما عرف باسم مبدأ كيسنجر، في منتصف السبعينات بإشعال الحرب الأهلية اللبنانية، وأتبع بحرب العراق ايران بعد ذلك بخمس سنوات.
فمبدأ الإضعاف كبديل للتجزئة، قد عرف اذن منذ زمن بعيد، وشرع في تنفيذه في لبنان منذ منتصف سبعينات القرن الماضي كما سبق وذكرت. الا أنّ البعض في نهايات ثمانينات القرن الماضي، ومنهم برنارد لويس صاحب خرائط الشرق الأوسط الجديد، والكولونيل رالف بيترز بمقاله الذي رسم حدوداً جديدة للمنطقة أسماها «حدود الدم»، وجيفري غولدبرغ بسلسلة مقالاته في مجلة «أتلانتيك» الداعية لتقسيم كلّ شيء حتى السودان والسعودية… هؤلاء لم يعودوا مكتفين بالاضعاف، بل أرادوا… وقد آزرهم المحافظون الجدد حديثو الظهور، وكان بيترز وغولدبرغ من مفكريهم والمنظرين لهم، والذين طالما اعتبروا، أكثر من غيرهم، أنّ أمن اسرائيل هو أمن لأميركا… هؤلاء لم يجدوا في الاضعاف والاستنزاف نهجاً كافياً ومحققاً لأهدافهم بحماية أمن اسرائيل. فحماية لاسرائيل كهدف جوهري، اختاروا الشروع بمسعاهم لتقسيم دول المنطقة وتجزئتها باعتباره أكثر ضمانا لأمن الحبيبة الكبرى: «إسرائيل».
كلّ ما في الأمر، أنّ حربين ضدّ العراق، لم ينجحا في تحقيق ذلك التقسيم بشكل واضح رغم ظهور بعض معالمه في القطر العراقي، لكن مع بقاء سورية، الدولة الأقرب من غيرها للحدود الاسرائيلية، قوية موحدة متماسكة، دون ظهور ولو بارقة أمل صغيرة لاضعافها أو تفكيكها. ومن هنا كان لا بدّ من العودة الى فلسفة اضعاف الدول، باعتباره نهجاً أسهل في التنفيذ، وأقل اثارة لردود الفعل الدولية كتلك التي أثارتها الحربان السابقتان ضدّ العراق. اذن طالما تعذر التقسيم، أو احتاج على الأقلّ لأمد طويل لتحقيقه، جرت العودة الى نهج الإضعاف والاستنزاف والمشاغلة. وهكذا انطلق الشروع في تنفيذ مسرحية اسمها «الربيع العربي» تحت شعار اطلاق الحريات الديمقراطية وحق شعوب المنطقة بالديمقراطية.
وبدأ الفصل الأول الممهّد في تلك المسرحية المتعددة الفصول، في تونس الخضراء التي لم تعد بعد ذلك خضراء. وتلاها فصل ثان في مصر، ممهداً بعد بضعة أسابيع لفصل ثالث، هو عادة غرة المسرحية وذروتها في أية مسرحية كانت. وكانت غرتها وثالث فصولها… في سورية الهادئة الهانئة المستقرة التي لم تعرف قط، ومنذ الانتداب الفرنسي، خلافات طائفية أو نزاعات عرقية أو اثنية.
وبسرعة اكثر من سرعة الضوء، دخلت سورية في حرب دامية، نتج عنها آلاف الشهداء، وملايين المهجرين واللاجئين، ودمار طال المنشآت والبنية التحتية والكثير من معالم الحضارة في هذا البلد، كما في تدمر وفي غيرها من مواقع تاريخية.
ولكن عاملاً آخر ظهر أيضاً على الساحة العربية فجأة. مع أنّ نشأته كانت في العراق… في النصف الثاني من العقد الأول لهذا القرن، باسم دولة العراق، ومن ثم دولة العراق الاسلامية. الا أنه سرعان ما تحوّل في العقد الثاني من هذا القرن، الى «دولة العراق والشام الاسلامية داعش»، ليطلق على نفسه بعد ذلك اسم «الدولة الاسلامية» التي سرعان ما انتشرت انتشار النار في الهشيم في كلّ من العراق وسورية وليبيا واليمن، بل وظهر وجود لها في السعودية أيضاً. وهكذا باتت الدولة الاسلامية ورماً في خاصرة الأمة العربية كلها تدريجياً في خاصرة أوروبا أيضاً يضاف الى الأمراض الموجعة التي طالت سورية والعراق، وتبعتها ليبيا واليمن، وخصوصاً اليمن الذي أصيب بعاصفة الربيع العربي، ومن ثم بحرب «عاصفة الحزم» التي شاغلت، اضافة الى اليمن، كلّ دول الخليج وخصوصاً المملكة السعودية، كبرى دول الخليج، منهية بذلك.. الأمل المعلق عليها لتكون القوة العسكرية التي وفرتها لنفسها أموال النفط، لتكون سلاحاً يوجه في مرحلة ما نحو اسرائيل، واذا به يوجه ضدّ الشعب اليمني والسوري من قبله ولو بشكل غير مباشر ، بذريعة كونه الآن موجهاً ضد التدخل الايراني في منطقة الخليج وغيرها من المناطق العربية كسورية والعراق.
وهكذا باتت ورقة التدخل الايراني سبباً ومنفذاً لتحقيق نهج استراتيجية الإضعاف، بعد تقاعس نهج التقسيم عن تحقيق نتائج فاعلة وسريعة لضمان أمن اسرائيل. ويأتي هذا التوجه الساعي لتصعيد الخلاف مع ايران، في وقت توجّب فيه السعي لرأب الصدع بينها وبين الدول العربية وخاصة مع المملكة السعودية منها، من أجل إحباط النهج الأميركي لإضعاف دول المنطقة واستنزافها، إكراماً لعيون «إسرائيل» الحبيبة لراسمي المخططات الاستراتيجية في الولايات المتحدة.
فالردّ الفعلي والضروري على نهج التقسيم، ومن ثم نهج الاضعاف، هو اتحاد دول المنطقة لمواجهة ما تواجهه الآن تلك الدول من مخططات شريرة، وما قد يكون ما زال قادماً عليها من كوارث. فالمطلوب ليس حروباً وصراعات بينها، بل تنسيقاً يصل الى حدّ تحقيق الاتحاد الشرق أوسطي على غرار الاتحاد الأوروبي الذي لم تقف في طريق تحقيقه كلّ الحروب التي خاضتها تلك الدول الأوروبية ضدّ بعضها البعض، اضافة الى كلّ الخلافات الطائفية والدينية بينها. فالملايين قد قضوا في حروب قضتها تلك الدول بين بعضها البعض. وفي معركة واحدة خلال الحرب العالمية الثانية هي معركة فردان، قضى ثلاثمائة ألف انسان فرنسي والماني. ومع ذلك، تعانقت الدولتان، الألمانية والفرنسية، ودخلتا في الاتحاد الأوروبي.
فما كان من خلافات بينها، طائفية ودينية بعض دول الاتحاد الأوروبي دول اسلامية في وسط مجتمع مسيحي ، كان أكبر كثيراً من الخلافات الطائفية بين السنة والشيعة. وكذلك الحروب بينها، كانت أقسى من مجرد حروب محدودة بين السنة والشيعة، أو بين العرب والفرس، ومنها معركة القادسية، ثم كربلاء، وكذلك حرب عراق إيران، وهجمة الوهابيين على النجف وكربلاء. فهذه كلها لا ترقى أبداً الى مستوى وكم الحروب التي جرت بين الدول الأوروبية، التي لم تردعها تلك الحروب بينها، أو الضحايا الذين سقطوا نتيجة لها، عن الدخول في اتحاد أوروبي، والذي على نهجه ينبغي أن يقام الاتحاد الشرق أوسطي الذي يضمّ الدول العربية وايران وتركيا، بل وكردستان أيضاً القادمة لا محالة كدولة مستقلة، كما تدلّ العديد من المؤشرات، ومنها مؤشرات أميركية وربما روسية أيضا.
مستشار في المركز الأوروبي العربي لمكافحة الارهاب برلين
عضو في مركز الحوار العربي الأميركي واشنطن
عضو في رابطة الكتاب الأردنيين الصفحة الرسمية