مختصر مفيد

مختصر مفيد

ظاهرة «داعش» ودولته، عنوان المرحلة وعنوان الاستقطابات الجديدة في المنطقة. ويستحيل فهم الآفاق التي تتّجه نحوها المنطقة، ولا السياق الذي سيُرسم لخريطتها من دون فهم خلفيات دولة «داعش» ومعطياتها وظروف نشأتها وتداعيات المواجهات التي ترتّبت عليها.

«داعش» تنظيم مركب ومتعدّد الأوجه، ولا يمكن تفسير حركته ومشروعه ولا حتى ظهوره وفقاً لأحد هذه الوجوه والأبعاد. فـ«داعش» تنظيم مبنيّ وفقاً لعقائدية تقوم على فهمٍ للإسلام عنوانه رفض كلّ منتجات الفكر السياسي الحديث، والتمسّك بالعودة إلى دولة تقوم على البيعة لشخصية قيادية في التنظيم وفقاً لمبدأ الخلافة، ورفض كلّ منتجات الديمقراطية والانتخاب والجبهات التحالفية حتى مع قوى تنتمي إلى الفكر السياسي والديني والمذهبي ذاته، واعتماد أحادية حصرية للتعاطي في الشأن العام عنوانها الخط الفكري والمسؤولية الحصرية لشؤون الناس في مناطق وجودها، التي يجب أن تتحول إلى دار خلافة بشطب دموي لكلّ ما هو غيرها، ولو اقتضى الأمر التطهير الدموي للمخالفين أو حتى المختلفين، وأصل هذا الفكر الوهابية كمدرسة تقوم على التكفير الدموي وتدّعي الانتساب إلى الإسلام.

«داعش» في طريق النموّ والسيطرة على مناطق من الجغرافيا السورية هي حاصل التبنّي الأعمى والقائم على استحلال كل المحرّمات من كل الذين خاضوا الحرب ضدّ سورية. ولم يعد مخفياً كيف جُمعت مكوّنات القاعدة وأُرسِلت، ولا كيف جرى تجميعها وتنظيمها في تركيا والأردن ولا الصفقات التي عقدت معها في السعودية واليمن وغوانتانامو، وكيف جرى إخراج هؤلاء التكفيريين من السجون ضمن صفقة الحرب على سورية، أو كيف فُتحت مكاتب لتطويعهم في البلدان الأوروبية، وكيف زُوّدوا بجوازات السفر اللازمة والتسهيلات الضرورية لذلك، وصولاً إلى حملات التعبئة والتطويع في تونس والجزائر والصومال والشيشان وغيرها من البلدان.

«داعش» المولود كقوة عسكرية ومالية في قلب الحرب على سورية هو ثمرة تحالف أميركيّ ـ غربي مع السعودية وتركيا وقطر، بشراكة من الإخوان المسلمين، تحت شعار استقبال المقاتلين الأشداء الذين يمكن لغبائهم وتطرّفهم وأفقهم الضيق أن يجعلهم يقاتلون بلا تفكير ويجعلهم وقوداً للحرب وأملاً بالرهان على القدرة على التخلص منهم عندما تميل الموازين واقتراب لحظة الانتصار وإسقاط الدولة في سورية. أو يكفي التخلص منهم من بلدان الغرب والعرب وليقاتلوا إلى ما شاء الله في سورية. فالقاتل والمقتول عدوّان يجري التخلص منهما.

«داعش» المتمدّد نحو العراق هو التنظيم الذي خرج من رحم القاعدة في معسكرات التدريب والقتال، ناكراً نظريات مؤسّسي القاعدة عن أممية التنظيم ومتمسكاً بإقليميته من جهة، والمتخلي عن فكرة الجهاد ضد الغرب كأولوية لمصلحة الإمساك بالسلطة. والمتمرّس على فنون اللعب الاستخباراتية والتخفّي والتنكّر تحت تسميات متعدّدة ريثما تحين ساعة الظهور القويّ إلى العلن، والممتلك خطة حكم وحدود للجغرافيا المجدية لهذا الحكم، والمستفيد من تجارب حركات تاريخية مشابهة في كيفية تحدّي المعادلات الدولية والإقليمية لبناء كيان سياسي عسكري وليد ومتمرّد ومرعب، والأكثر إفادة في التعلم كانت تجربة الحركة الصهيوينة التي أنشأت كيانها في فلسطين بالطريقة الدموية والتهجيرية والتطهيرية ذاتها، وكسرت الحدود الإقليمية وامتلكت الأسلحة الفتاكة والمحرّمة.

«داعش» في النقلة العراقية تقاطع جديد للمكوّن الذي نضج واقترب من اكتمال أسباب الظهور إلى العلن مع الضغط الاستخباراتي على حكومة المالكي من الغرب والسعودية وتركيا، للدخول في صفقة تُضعف النفوذ الإيراني، أو الدخول في صفقة مع إيران تنطلق من تظهير عجز المالكي. واللحظة هنا هي لحظة انكشاف المالكي من جيشه بفعل الاختراقات التي سهّلت تسليم مناطق الوسط العراقي من جهة، واستثمار غضب عشائر الوسط العراقي ونُخبها المنتمية في غالبيتها إلى بقايا النظام السابق وضباطه وحزبييه. ليصير «داعش» من مكوّنات خليط طائفيّ استخباراتي قاعديّ يسيطر على جغرافيا العراق الحسّاسة ليملأ فراغاً وقع بين يديه. ويكون «داعش» الفريق الأقوى من المكوّنات الشريكة لأنه الأشد تنظيماً والأكثر جهوزية، والأهم أنه وحده في ثقافة العداء المذهبي يذهب إلى حيث لا مكان للمصالحة، فيصير الوريث الطبيعي لكل ثقافة العداء، لأنه يمضي فيها إلى النهاية عقائدياً وعملياً.

«داعش» كما الجيلين الأول والثاني من القاعدة إشكالية مَن يستعمل مَن، ومَن يقدر على استخدام الآخر، ومن يملك طاقة الانقلاب على الآخر وأهليته، وها هي تجربة العراق تستعيد تجربة أفغانستان، ويكتشف مشغلّو القاعدة ومنتجاتها أنّ قدرهم مرّة أخرى أن يبدأوا من الصفر، وأنّ ما اعتقدوه ثابتاً وراسخاً كحال البشمركة ينهار بكبسة زرّ أمام «داعش» ويتكشف عن بناء هشّ أوهن من بيت العنكبوت.

تأسيس شركة مساهمة دولية إقليمية للتخلّص من «داعش» صار عنوان المرحلة وصارت الشركة بحاجة إلى كلّ المساهمين وعلى رأسهم الذين قاموا بتسمين «داعش» من قبل، خصوصاً السعودية وتركيا وقطر. فوصل سعد الدين الحريري إلى بيروت وطار نور المالكي من بغداد والمتغيّرات تأتي تباعاً، لكنّ الثابت الوحيد أنّ الحرب على «داعش» لا تستقيم بلا شراكة سورية بجيشها ورئيسها. فبشار الأسد كلمة السرّ الصعبة التي تربك الجميع كضرورة تتلعثم الألسن في نطقها لدى ذكر ما ينقص هذه الشركة، كي تحقق أسهمها الربح المرتجى.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى