أمين معلوف… التفريط الغبّي
هاني الحلبي
إطلالة كاتب عالمي مميّز، حاصد جوائز مرموقة كأمين معلوف، على شاشة قناة «I24» الإسرائيلية الفرنكوفونية ضمن برنامج «ثقافة» في 2 حزيران الحالي، خطأ كبير بمعايير المواطن السوي والإنسان الحقيقي والعدالة الحقيقية والسلام الحقيقي.
ومن الطبيعي أن تُطلق إطلالتُه عاصفة سجال بين معترضين حتى التخوين وبين مبرّرين حتى الهبل. فدعت «حملة مؤيّدي مقاطعة إسرائيل» في لبنان في بيانها الأربعاء الفائت «الكاتب اللبناني البارز أمين معلوف إلى تقديم اعتذار عن هذا اللقاء». ورأت أنّ هدف القناة هو «ربط إسرائيل بالعالم» وفي هذه الظروف فقد «وظَّف الكاتب شهرته، وإبداعه المتميّز وعضويته في الأكاديمية الفرنسية … لإعطاء شرعية غير أخلاقية لوسائل الإعلام «الإسرائيلية»، وهي أداة مهمّة للاحتلال والاستيطان في الأراضي الفلسطينية».
بينما لم تكتفِ صحيفة «الأخبار» اللبنانية بفكرة المطالبة باعتذار معلوف، بل وصفته بـ«ليون الإسرائيلي» عنواناً لافتتاحيتها الحادّة بحق. وتساءلت: «هل صاحب «ليون الإفريقي» ساذج لدرجة أنّه لم يرَ الفخ؟ ألم يجد حَرَجاً من هذه «المبايعة» الرمزية لـ«إسرائيل»؟ ليس أمراً ثانوياً أن يعترف بـ»إسرائيل» كاتب عالمي؟»
كما تساءلت صحيفة «السفير»، بقولها: «هل هي خيانة المثقفين؟»
بينما دافع الصحافي زياد مخول، أحد مسؤولي التحرير في صحيفة «لوريان لوجور»، بتغريدة على «تويتر»، بقوله إنّ «أمين معلوف كان يروّج للثقافة والعدل والسلام. هذه الحملة ضدّه غباء لا اسم له».
وبرأيي أنّ مناقشة المسألة تتمّ بثلاث نقاط موجزة، هي:
معنى الهوية والتطبيع
ما الهوية القومية الوطنية؟ وما دورها في الوعي وفي مناحي حياة المواطن السويّ لتتجلّى فعالياتها في سلوكه إنساناً منتجاً بنّاء؟ وعي الهوية أهمّ عمل تربوي ينبغي على المؤسسات الاجتماعية التربوية النفسية السياسية أن تتنكّبه، فعلى شبكة الوعي المواطني للهوية تنبني الشخصية الإيجابية للمواطن. وعندما نقول المواطن، بما تعنيه من صيغة مشاركة وروح تفاعل نفسبدني اجتماعي روحي انتهت صلاحية ومبرّرات وصف الكائن البشري في مجتمع متفاعل بفرد. الفرد ما كان فريداً وحيداً مفرداً في عزلة تامة عن أيّ آخر. الله فرد، في نظر المتديّنين بالتوحيد، وليس المواطن في مجتمع حيّ.
أن يعي المواطن حقيقته إمكانية بشرية وقدرة اجتماعية تنتمي لمجتمع وشعب، مبثوث ميراث جدودي تاريخي فيها، بجيناتها وخلاياها، بوعيها ولاوعيها، بنفسها وبدنها، في حضورها وغيابها، في قيمها وفي معاييرها وروائزها، لا يمكنها مهما فعلت أن تتنصّل من هذا الميراث في هويتها المندغم بحياتها والذي لا ينتهي إلا بالموت. قد يتلاشى هذا الميراث كلما أمعنت في اغتيال فطرتها واستعداداتها، وقد تطغى عليه أنماط سلوك مستجدة لكنها لا تحلّ محلّ الأصل. يبقى الميراث النفسي للأمة في الوجدان ولو افتعل المرء الانفصام الشيزوفرانيا بين هويته وأية هوية أخرى تتداخل مع سلوكه وحياته لكنها لا تلغي هويته كلها. هذا الانفصام يعانيه المغتربون في نفوسهم وقيمهم وإقامتهم عادة، منهم من يذوبون كلياً في المجتمعات التي انوجدوا فيها بعد الجيل الثاني، ومنهم يبقون ميداناً لانفصام بين هويتين، هوية إرثية نفسية راسخة وهوية دخيلة تستلب المغترب في يومياته لتطغى عادة على ما عداها، ومنهم من يحرّره الإثم الكنعاني من أيّ استلاب فقد يبقى في المغترب جسداً وإقامة، لكنه في حيثيات تفكيره ونفسيته وحياته مقيم بوجدانه وروحه في الوطن ويعمل لنصرته هو لأنه وطنه وليس فقط في سياق عمله لنصرة إنسانية عامة متوهّمة غير موجودة. أيّ عمل إنساني إنْ لم يكن أولاً قيمة لإنساننا القتيل بالعدوان الأجنبي والسياسات الإقطاعية الطائفية المحلية وقيمة لشعبنا الضحية بالتخطيط الأجنبي الرأسمالي الوهابي المتكالب علينا بالدم والمجازر والفتاوى، فهو ليس إنسانياً قط.
التطبيع، هو إجراء وسياسة يهدفان لمعاكسة ما هو طبيعي والطغيان عليه واستلابه. لفرض ما يُراد التطبُّع عليه بالتطبيع قسراً او تهويلاً او إغراء. لم يُقدّم أيّ مشروع لما يسمّى «السلام» مع «إسرائيل» إلا بعد وطأة حرب ومجازر وتهجير وتشريد وتلويح بسلة «جنة» وعود مالية واقتصادية بتوظيف «الغنى» الصهيوني في «القفر» العربي، هذا القفر من الرجال والقفر من الكرامة والقفر من القيادة، لولا المقاومة التي أطلقها يوسف العظمة في ميسلون وما زالت تتوالى…
وللتطبيع وسائل، لأنه لا يُقدّم عارياً مكشوفاً بل يُقدَّم بنقاب. نقاب الحداثة، والتحديث مع مَن يمكنه تأهيل مجتمعات قبلية أعادها داعش والنصرة الوهابيان إلى ما قبل عصر النمرود البابلي ليبدو اليهودي الصهيوني إلهاً طوطماً يبشر بوحدانية استحقاقه معبوداً لبشرية جديدة ذليلة بلا قيم سماوية.
التأسرل والمبايعة
لا يكفي أن يبرّر صحافي لقبول معلوف إطلالته من شاشة معادية بأنه كان يروّج للثقافة، هو تبرير ساذج وسطحي جداً! فعندما تقدّم شركة «إسرائيلية» حذاء أو طابة أو تيشرت عليها نجمة داوود إعلاناً في مباراة أو معرض ما هدف هذا الترويج؟ حسب سخافة معايير الزميل مخول وسطحيتها، هي سلع تروّج للرياضة فقط وببراءة أطفال توم وجيري! كذلك لو كانت تقدِّم دواء فيه شفاء من مرض عضال وكتب عليه «اقتلوا كلّ نسمة حيّ في أرض كنعان!» فما الذي يتمّ الترويج له، الشفاء أم القتل؟ هو السمّ اليهودي في دسم إنساني حديث. هذه «آية» توراتية تطالب بقتلك على غلاف دواء يدّعي إشفاءك من مرض عضال!
الإطلالة من قناة «إسرائيلية» أو ترويجها لـ «القيم الإسرائيلية» أو في معرض أو أيّ نشاط معادٍ أو صديق للعدو كحالة تركيا وأميركا وأوروبا وروسيا، أو مستسلم له كمصر والسلطة الفلسطينية والأردن، أو يغضّ النظر عن الجرائم التي يرتكبها العدو اليهودي الصهيوني في فلسطين وفي لبنان وفي سورية أو حتى يساوم على قيم وتاريخ، كما ارتكب كاتب ومخرج مسلسل «باب الحارة» الشامي ليسوّق لنا قيمة الشخصية اليهودية الرزينة القيم، المتماسكة الحضور، نجماً في حارة دمشقية، ويعتبرها مقياساً لتحبيب الناس باليهود بعد تاريخهم الملتبس والمجرم، كما يؤكد كتاباهم التوراة والتلمود ومسار حياتهم بالدعوة لإبادة الآخر وتبرير قتله وسلبه وإذلاله، فقط لأنه من الـ«غوييم» أيّ الأغيار البهائم. هذا كله إما جهل مرتزق بالنذالة، وإما غباء لا يحميه قانون أو تاريخ، وإما تواطؤ عارٍ وخيانة مفضوحة كما مارسهما سعد حداد وانطوان لحد وبشير الجميّل وأحمد الجلبي وكثيرون داخل السلطات والمجتمع في معظم الدول العربية والسلطة الفلسطينية والقوى الطائفية والشعبية.
خيانة المثقفين
عيبُ هذا القول هو التعميم. إنْ فرّط معلوفٌ، فليس كلّ معلوف مفرِّطاً، وإنْ كان لا يعنيه أن يقاطع عدواً أو خطة تدمير بلده لبنان، فهذا عقوق وانتهاز مصلحة وجبن مكروه في الكبار. ونحن لا نطلب منه أن يتخندق لاستعادة مزارع شبعا! ولن نسأل أين كان لمّا اجتاح اليهود بيروت، لكن أن توظّفه وسيلة إعلام معادية لنا وضدّ حقوقنا، فهذا تفريط غبي، في أدنى درجاته. وللمناسبة جلّ السياسة والنشاط الأوروبي والأميركي الرسمي والعربي الرسمي هو تكريس لخطة تدميرنا. ونحن مع سخافة قياداتنا الرسمية وهبل حكوماتنا وتواطئها وتشتّت قوانا الشعبية والسياسية وتنافرها نتغاضى بقصد عادة. ندفن رؤوسنا برمال العروبة ونلهو بأصابع أقدامنا. ومعظم سياسيينا يديرهم جيف فيلتمان بكبسة زرّ… وأيّ جيف آخر. بكبسة زر يأتون بقائد جيش رئيساً. بكبسة زرّ يسوقون نوابنا بطائرة واحدة «دوكما» ليتمّ عقد دوحة قطرية وتطويب اغتيال جديد لأيّ حركة تحاسب الحريرية وغير الحريرية من السياسة الرسمية اللبنانية على انهزامها منذ العام 1948.
أمين معلوف… غير مسموح لك ان تذلّ شرفاء لبنان وأبطال لبنان وشهداء لبنان وعظماء لبنان… فما قاله أنطون سعاده في هذه الحالة «لم يتسلّط اليهود على جنوب بلادنا إلا بفضل يهودنا الحقيرين في ماديتهم الذليلين في عظمة الباطل»… فلا تكن منهم، واصلح ما ارتكبت!
باحث وناشر موقع حرمون haramoon.org/ar