قانون الستين باق والتغيير مؤجل…
علي بدر الدين
النتيجة التي خلصت إليها اجتماعات اللجان النيابية حول قانون الانتخاب الذي سيعتمد في الانتخابات النيابية الموعودة العام المقبل لم تكن مفاجئة ولم تشكل صدمة للبنانيين، لأنّ فشلها كان متوقعاً ومحسوباً، لأنه ربما في لبنان من دون غيره من دول العالم تكون فيه اللجان مقبرة القرارات، وقد يتشارك لبنان مع محيطه العربي بحسم النتائج قبل حصول الانتخابات، فكيف إذا كان أعضاء هذه اللجان هم أصحاب المصلحة الحقيقية والحالمون بالتمديد أو التجديد لولاية ثالثة ورابعة حتى ينقطع النفس لهم ولغيرهم من «نواب الأمة» الممدّد لهم غصباً عن إرادة اللبنانيين وقرارهم بالاختيار، ولأنهم كما أسيادهم في قمة هرم الطبقة السياسية الحاكمة والمتحكّمة لا يريدون إمرار أيّ قانون انتخابي آخر غير «الستين» المعتمد منذ عقود والمعدّ بخبث من قبل الرعيل الأول من نواة النظام السياسي الطائفي ليؤمّن لهم ولورثتهم من الأولاد والأحفاد والسياسيين الفوز المؤزّر والمزوّر والتحصّن في جنة المجلس النيابي.
وعلى خطى أسلافها تمارس المكوّنات السياسية والحزبية والطائفية والمذهبية سياسة المصالح والمنفعة، ولا همّ لها سوى حمل ألقاب فضفاضة لا تليق بالبعض ممّن تسلق خلسة سلم «المجد» النيابي. نواب كما غيرهم من الذين عبروا إلى النهاية الثابتة والحتمية أو الذين همّشوا بعد أن أرداهم سيف الطوفان السلطوي والمالي، اقتصر دورهم على الولاء لوليّ نعمتهم وعلى رفع الأيدي وطأطأة الرؤوس قبولاً ورضى لأن لا دور تشريعياً أو رقابياً أو خدماتياً لهم، وقد تحوّلوا إلى سعاة بريد أو مجرّد أبواق إعلامية عند الحشرة والضرورة وبطلب من السلطان، وكما يقول المثل ًمن يأكل من خبز السلطان يضرب بسيفه، والمصلحة تقتضي المحافظة على المقعد النيابي مهما كلف الأمر، لأنّ التخلي عنه يعني الانزواء والانكفاء إلى هامش الحياة السياسية والاجتماعية، وإلى فقدان الهيبة ولو كانت مصطنعة والخروج خالي الوفاض إلا من تقاعده براتب مرتفع لا يستحقه.
والغرابة في أنّ اللجان النيابية رمت كرة فشلها المتعمّد أو عن عجز وقصور سياسي ووطني في مرمى هيئة الحوار التي ستعقد جلستها في 21 حزيران الحالي علّها تكون المنقذ وتنجح في ما عجزت عنه اللجان، غير أنّ المؤشرات والمعطيات تنبئ بأنّ الجلسة المنتظرة ستكون نسخة طبق الأصل عن سابقاتها، لأن لا شيء تغيّر، فالمتحاورون أنفسهم والعقلية السياسية على حالها من الجمود والجحود والمصالح المشتركة والظروف السياسية في البلد وفي المحاور الإقليمية والدولية أكثر تعقيداً بل تتجه إلى مزيد من السخونة والتصعيد والتأزّم… إنه فقط حوار من أجل الحوار لا فائدة مرجوة منه، كما الحوارات الثنائية، وعلى قاعدة المثل الشعبي «الجمل بنية والجمال بنية»، فالهدف المعلن لها هو التهدئة وتقديم جرعات حوارية تخديرية شكلية لا تقدّم ولا تؤخر بعد أن تجاوزت الحلول الطبقة السياسية رغم الادّعاء بالقدرة على ولوجها، وباتت كما يعرف القاصي والداني في عهدة القوى الإقليمية والدولية التي تؤكد من خلالها مدى قوتها ونفوذها وتأثيرها في الصراع الإقليمي والدولي الذي يبدو أنّ احتدامه إلى تصاعد وأنّ ارتداداته على لبنان ستساهم في تعطيل الحياة السياسية وفي تأجيل الاستحقاقات الدستورية، ومنها انتخاب رئيس جديد للجمهورية المعلّق حتى إشعار آخر. كما في الاستحقاق النيابي المرتقب الذي يتجه إما إلى التمديد للمجلس الحالي، أو على الأقلّ اعتماد قانون الستين وهو بمثابة تمديد مقنّع لأنه حتماً سينتج الطبقة السياسية ذاتها التي لا تزال متماسكة وقوية في مواجهة دعاة التغيير، وهذا ما عبّرت عته بوضوح الانتخابات البلدية والاختيارية، وإنْ خرقتها قوى حزبية وسياسية وعائلية كانت غائبة أو مغيّبة عن الساحة، وقد سارعت هذه الطبقة إلى لملمة أوراقها التي بعثرتها المتغيّرات الانتخابية، وإنْ كانت متواضعة، وإلى جمع أشلائها في المدن والبلدات لتصحيح الخلل وإزالة الشوائب وتحسين شروط التحالفات العجيبة الغريبة واعتماد سياسة الهجوم التي هي خير وسيلة للدفاع، وهي تحضّر للمنازلة في الانتخابات النيابية طبعاً على أساس القانون الذي يحمي مصالحها ويعيد إليها التوازن الذي كادت أن تفقده بفعل الغرور والاستعلاء على الناس.
وقد بدأتها منذ الآن من خلال الاتجاه إلى فرض قانونها وتهريبه من اللجان إلى الحوار إلى تضييع الناس في مشاريع قوانين بعناوين وأهداف ملتبسة ومشكوك في صدقيتها، ثم إغراق اللبنانيين بالأوهام والنوم على حرير الوعود الكاذبة بالإصلاح والتغيير وبقانون مثالي يترجم التطلعات ويحقق الأحلام وينقذ لبنان الغارق بالأزمات والمشكلات المتراكمة والمزمنة وبالانقسامات التي هي من صناعة هذه الطبقة المتربّعة في أبراج عروشها المحصّنة بالسلطة والمال والنفوذ والرفاهية المطلقة المحاطة بالخدم والحشم والوفرة في المياه والكهرباء والنعيم، على حساب خزينة الدولة وعلى نفقة المكلّف اللبناني الفقير الذي لا حول ولا قوة ولا مقدرة على التغيير وتحصيل حقوقه المنهوبة. هذه الطبقة رغم الثراء الفاحش لم ترتو أو تشبع وكأنها تعاني من نهم مزمن إلى المال والتسلّط والتحكّم والسيطرة على مقدّرات البلاد والعباد، وهي تعيش الهواجس والخشية من أن يسبقها أحد إلى نعيمها الدنيوي أو تتبدّل الأحوال وتتغيّر الظروف التي أنجبتها وساعدتها على تحقيق مكتسبات وامتيازات ما كانت لتحلم بها يوماً، وهي اليوم وغداً ستتمسك بها ومن بعدها الطوفان وكأنها انتقلت إليها بالوراثة العائلية.
لا يعتقدنّ أحد من اللبنانيين على اختلاف توجهاتهم السياسية وانتماءاتهم الطائفية والمذهبية أنّ التغيير آتٍ على صهوة التطورات التي تعصف بالمنطقة ولبنان، لأنها تفعل فعل السحر لهذه الطبقة المستفيدة الأولى منها، ولأنها تضمن لها البقاء في السلطة وفق الادّعاء بالأولويات والتحديات وبعناوين الحاجة إلى الستاتيكو القائم حتى لا يضيع لبنان في المجهول الآتي من خضمّ الحروب والصراعات والإرهاب الذي يضرب في غير منطقة من العالم، ولبنان في الأساس هو في عين العاصفة إضافة إلى إقدام الطبقة السياسية على استحداث أزمات جديدة في الداخل اللبناني لتلهي اللبنانيين عن الهمّ الأساسي بتعويم أزمات جديدة قديمة.
سئل فرعون «من فرعنك»؟ فقال: «لم أجد أحداً يصدّني»، وهكذا هو حال الطبقة السياسية المتفرعنة والمتسلطة وحال اللبنانيّين المتضرّرين من استمرارها، وهم الذين ما زالوا عاجزين عن الحراك الجدّي الهادف إلى التغيير المنشود، بل أكثر من ذلك اصطفّوا خلف جلاديهم يصفقون لهم ويتصارعون من أجلهم ويختلفون في ما بينهم ليبقوا محكومين يتلذّذون بلحس المبرد وقد استسلموا ورفعوا العشرة أمام جحافل السياسة يراهنون فقط على عامل الزمن كأنه السيف القاطع للعلاقة مع حكامهم. وقد أظهروا حسن نواياهم بالانتخابات البلدية والاختيارية واقترعوا بغالبيتهم للوائح الأقوى والمضمونة الفوز علّها تردّ لهم الوفاء بالوفاء فعبثاً يحاولون أو يتوقّعون ردّ الجميل ولكن لا بدّ من تسجيل شرف المحاولة لقوى رفعت صوت الاعتراض والمنازلة في معارك انتخابية ظنّ البعض أنّ نتائجها محسومة قبل أن تبدأ.
رغم الواقع السياسي السوداوي والمأزوم الذي يعيشه لبنان فلا بدّ من أن يأتي زمن تقلب فيه الطاولة وتعدّل الموازين وتطيح بطبقة سياسية صالت وجالت وتحكّمت وأفسدت… قد يكون قريباً أو بعيداً فهذا هو منطق التاريخ، والشواهد كثيرة ولكن الثابت لدى الحاكمين أنّ قانون الستين باق بانتظار المتحوّل وإنْ طال الزمن.