الغزو الثقافي… اختيار أم حتمية؟
سارة بن مزيان
عجزنا سياسياً فعجزنا أخلاقياً ثم ثقافياً على أن نسوّق أفكارنا للعالم. هذا حال العرب اليوم الذين باتوا مَفْرغة للعالم على الأصعدة كافة. ولأن الجماهير ملّت من التنظير السياسي، سنأخذها اليوم إلى الثقافة. فعلى ضوء الثقافة سنحلّل واقعنا الذي أصبح فيه الفرد في مرحلة ما بعد التحضّر.
عن تأثير المسلسلات التركية أتحدّث كما كان يجب ـ قبل قرابة أربعين سنة ـ أن نتحدث عن تأثير المسلسلات المكسيكية، وبعدها الأفلام الهندية. والأسئلة التي تتبادر إلى الذهن: كيف تمكّنت الدراما التركية أن تهزّ عرش العرب من خلال الصورة؟ هل مجتمعنا اليوم متعطّش لرؤية الجمال والأناقة؟ أقول لا، لأننا نملك جميلات في الجزائر في سورية ولبنان وسائر البلاد العربية. وهل هي الموسيقى القوية التي تلامس المشاعر لتضفي عليها موجة من الحنين آخذة إياها إلى امبراطورية العشق في أحيان كثيرة؟ أقول لا. ن الموسيقى العربية تستطيع فعل هذا بالتأكيد. كيف استطاعت هذه الصورة التركية بلسان عربي سوري بارع أضاف إليها لمسة سحرية، أن تصل إلى الجماهير العربية من طنجة إلى صنعاء، لا ينكر براعة الدراما التركية إلا جاحد، ولا يعترف بجودة الدراما السورية إلا أعمى. وهنا نقول: لماذا استطاع التركي الدخول إلى البيت العربي بقوّة، في حين لم يتمكّن العربي السوري من الولوج إلى أيّ بيت في العالم، في تركيا التي تدين بالإسلام، وتشاركنا «الثقافة الإسلامية»، أو في أيّ بيت، أوروبياً كان أم أميركياً، في حين أننا نرى البيت العربي لطالما كان مفتوحاً على مصراعيه لكلّ الثقافات المكسيكية الأميركية الهندية الأوروبية فالتركية.
هل هو هروب من واقع عربي بشع على كل الأصعدة؟ أم أننا أُصبنا بشلل نفسي جعلنا نعتقد أننا أمة ناقصة غير مكتملة النضوج، لم ولن تستطيع إشباع حاجاتها النفسية السياسية والثقافية؟ نعم، هذا هو الشعور الجماعي الذي تولّد عند العرب اليوم، جاعلاً إياهم أمة ممتصّة لكلّ ما هو أجنبيّ. وهذا ما جعلهم يلهثون وراء هوليوود وما تسوّق له منذ أربعين سنة لصورة عربيّ يمتاز بالغباء والثراء، يرتدي عباءة ويلهث وراء حسناوات شقراوات في البلاد الغربية. نعم، لا بل أكثر من هذا بكثير، لطالما صُوّر العربي باحتقار وبشاعة منقطعة النظير. نعم، هذه هي الصورة النمطية التي أرادت أميركا أن ترسمها لشعبها عن العربي. وماذا عنّا؟ هل استطعنا أن نكون صورة نمطية للأميركي؟ نعم، تمكّنا من فعل هذا. فقد رسمنا صورة إيجابية، لا بل مثالية عن الفرد الأميركي الذي صوّرناه قدّيساً مثقّفاً متعلّماً خالياً من كلّ العيوب. متناسين في ذلك الجانب الميت والقاتل من الحضارة الغربية الذي يتجسّد تماماً في المجتمع الأميركي الذي فقد كل مقوّماته ا خلاقية والنفسية، حين اختلطت عنده الروحانيات، فبات ماسونياً يمجّد الشيطان. وحين اشتبه عنده مفهوم الجنس، فأصبح غرائزياً بحتاً حتى تبنّى المثلية الجنسية معنوناً إياها بالحرّية الشخصية، فمسخت عنده كلّ معاني الإنسانية والأسس البشرية التي قام عليها الكون. هكذا فعلت أميركا، وهكذا فعلت المكسيك التي لم يخلُ مسلسل من مسلسلاتها من قسّ ذي مكانة اجتماعية له دور في كل تفاصيل المجتمع. هكذا تمسّكت المكسيك بمذهبها المسيحي الكاثوليكي وهكذا صوّرت أميركا العربي ذليلاً و الأميركي بطلاً منقذاً العالم و قادراً على تخطّي الصعاب. وهذا ما تفعله تركيا من خلال نشر ثقافتها في ربوع العالم العربي المسكين حتى بات الشباب ههنا يتغنّون بـ«مراد علم دار» البطل، والفتيات تموت من أجل عيش قصة حبّ «لميس» وكل المواليد حملت هذا الإسم و الكل أصبح مهند حتى إذا تمعنا في موقع «فايسبوك» وجدنا جلّ أسماء بروفيلات العرب تحمل أسماء لممثلين وممثلات من تركيا. إنها أزمة هوية، وانبهار ثقافي ولد فرداً عربياً ألغى ذاته وتشبّه بالآخر. إنها ليست صوراً فحسب، بل هي انعكاس لأفكار وقناعات لشباب وشابات سيصبحون في المستقبل أباء وأمّهات.
نحن لسنا ضدّ الثقافات، وربما سيصفنا البعض بالمتعصبين أو المعادين للأجانب ولكنّنا لم ولن نكون كذلك، حاشا أن نحتقر الغرب أو الأجانب. ما يقلقنا اليوم غيرة وخوف على هذه الهوية التي نخشى ضياعها. إنه قلق على هذا الوطن الذي كان ولا يزال مَفْرغة لمختلف الثقافات العالمية. هي الغيرة على هذه الهوية العربية التي ليست وليدة اليوم، والتي تبلورت لقرون من الزمن ولم تبقَ إلا بتضحيات أجيال وأجيال في ظلّ امبراطوريات ودول. فهؤلاء كانوا غيورين على هذه الهوية، حملوها وأضافوا إليها حتى وصلت إلينا بهذا الشكل الذي هي عليه اليوم. وهنا نتساءل: هل الأجيال العربية قادرة على مواصلة هذه الرسالة وكذا الحفاظ على هذا الإرث الحضاري؟
إذا تمعنّا في الإنتاج الدرامي العربي، نجد أن الدراما العربية السورية لطالما كانت مميزة وبارعة منذ سبعينات القرن الماضي. ويتجلى هذا في أعمال دريد لحام وياسر العظمة وغيرهما من المبدعين الذي يلقنوننا دروساً في السياسة والثقافة والإنسانية في كل كلمة يلفظونها. كما تزداد هذه السنوات الاخيرة حيث أصبحت عبقرية رغم الحرب، من حيث الأداء والسيناريو وكذا الإخراج. فقد تمكّنت الدراما السورية من ترجمة التأييد و«المعارضة» كما لم يفعل أيّ شعب آخر من الشعوب التي عاشت الحرب، وكأنها وحدها تفردت بهذه المعاناة التي إن لم نشعر بها من خلال نشرات الأخبار، فشعرنا بها من خلال الدراما، والتي هي انعكاس للواقع الاجتماعي للشعوب. فعن طريق ذلك الحوار الراقي القويّ الذي يلامس المشاعر أحياناً كثيرة، ويولّد التساؤلات عن ماهية المنظومة التربوية التي تلقاها هذا الشعب وكذا التنشئة الاجتماعية اللتان جعلتاه قادراً على ترجمة واقعه بهذه الصورة القوية كاملة التفاصيل، استطاع من خلالها الوصول إلى كل البيوت العربية. وللأسف لم يستطع الخروج إلى العالم على رغم جدارته واستحقاقه. وهذا ما لم أجد له تفسيراً سوى أن الشعوب الأخرى في العالم مصمّمة على رفض الثقافة العربية الإسلامية لسببين اثنين. الأول ناجم عن استصغار للعرب، والثاني ناجم عن حقد لا يزال ساكناً في نفوس الغرب الذي يدّعي عكس هذا، ويتغنّى في كلّ فرصة بإنسانيته العالية. هؤلاء هم الغرب، وهذا هو حالنا اليوم. فنحن شعب غير قادر على تسويق وإيصال أفكاره وثقافته، في حين نعتقده بارعاً في امتصاص واستيراد كل ما هو أجنبيّ على كل الأصعدة. وفي كل المجالات، إن العربي اليوم في حالة ما بعد التحضّر، وهو يعيش المرحلة بامتياز.
كاتبة من الجزائر