هل يشفى الشرق من لعنة التطرف ويبتلي الغرب بها؟
ناصر قنديل
– خلال يومين عاد هاجس الإرهاب ليتقدّم الصفوف الأمامية لمشاغل العالم الغربي من أميركا إلى أوروبا، والواضح الربط الذي يقيمه قادة الغرب بين حربهم لنيل المزيد من الأمن في بلادهم والحرب على الإرهاب في بلادنا، من جهة، وطغيان خطاب الثقة المبالغ بها والتهوين من خطر تجذّر الإرهاب في بلادهم من جهة أخرى، فنسمع الرئيس الأميركي متباهياً بما فعلته قواته بوجه داعش، ويهوّن من طبيعة وخطورة حادث اورلاندو، ومثله يجهد القادة الغربيون، تجهد وسائل الإعلام الغربية سواء في ما يخص أميركا أو أوروبا، للتركيز على طابع شخصي لأيّ حادث إرهابي، وقطعه عن ايّ جذور سياسية أو اجتماعية أو أمنية، والميل إلى ربطه باختلال عقلي أو ظروف شخصية تسمح بالتغاضي عن أيّ عمق في الفهم وبالتالي في المعالجة.
– لغة الثقة والإنكار ليست محصورة بهذا العنوان في الخطاب الغربي، فهي سمة التعالي، والخطاب الاستعماري القائم أصلاً على عنصرية التميّز، وما يستفزه من أيّ دعوة للتواضع والعقلانية، لتكون كلمة السرّ فيه دائماً، أنّ ايّ مخاطر أو تحدّيات هي عابرة، وأنّ كلّ شيء تحت السيطرة، ومثل هذا الخطاب ينتقل بالعدوى لكلّ من يتمثل الغرب وقيمه وقادته، فقد شهدنا في لبنان حادث تفجير بنك لبنان والمهجر، وسمعنا خطاباً تهوينياً من نوع، لن يهزّ القطاع المصرفي ولبنان حادث تفجير، والحكومة والأجهزة الأمنية قادران على إبقاء الأمور تحت السيطرة، ولبنان عاش ظروفاً أشدّ قساوة وتخطاها، وما يشبه هذه المعزوفة من ثقة غلواء وحملة إنكار بلهاء، بما يحجب العقل عن ايّ تفكير بمدى جدية وخطورة التهديدات، والبحث بكيفيات جديدة تستدعيها لمواجهتها والتخفيف من أخطارها وأضرارها، إذا كان الحؤول دونها مستحيلاً.
– خطاب التهوين والإنكار والاستعلاء والثقة الذي يسود الغرب يشكل العقبة الأولى دون الفوز بالحرب على الإرهاب، فالخطر ليس ناجماً عن وجود مناطق خاضعة للمتطرفين في الشرق يستخدمونها قواعد تدريب وإعداد وإنطلاق، وقادة الغرب يعلمون أنّ هذه المناطق نشأت بعلمهم وبقرار منهم، وأنّ التطرف في بلادنا هو ثمرة قرار في بلادهم، باستعارة جيش احتياطي يقاتل عنهم ذات الأعداء الذين عجزوا عن قتالهم، وأنهم وضعوا يدهم على ثروة فكرية يمثلها الخطاب الوهابي، يتيح بناء جيوش تجنّد المتطرفين من بلادنا وبلاد الغرب على السواء، وتتيح استعمال جنوده قنابل بشرية رخيصة وفعّالة، في جبهات حرب كان النصر ميؤوس منه فيها، وهي في العموم جماعات تبقى تحت السيطرة طالما يُراد توظيفها في الحروب الأصلية التي أنتجت لأجلها، لكنها تصير خارج السيطرة عندما يُراد إنهاؤها، وأنّ ما يشهده الغرب بنتيجة ذلك من أعمال إرهابية، هو ثمرة أربعة مصادر يصعب السيطرة عليها.
– أولاً نتاج الثقافة المتطرفة التي منحت حق التداول والتسهيلات اللازمة للانتشار ضمن ضرورات التجنيد للأدوار الخارجية، وما يترتب عليها من نبات عشوائي يؤمن بالخطاب ويسعى لترجمته خارج أيّ قدرة على التحكم بسياقات ولادته ونموّه وتجذّره، وثانياً العائدون من ساحات القتال ومن يسمّيهم الغرب بالذئاب الشاردة، وهم محترفون يمكن تتبع بعضهم لكن السيطرة الكاملة عليهم وعلى ما يختزنون من خبرات ليست بالأمر السهل، خصوصاً من قرّر العمل في الغرب منهم إما بسبب تصديقه الرواية التي ذهب للقتال على أساسها ومحورها تدين مغلق يجعل الغرب هدفاً بإاعتباره الآخر الرئيس المختلف الواجب عقابه، أو من اكتشف اللعبة التي وضعهم الغرب ليلعبونها وتخلى عنهم في منتصف الطريق وقرّر الانتقام، أما المصدر الثالث فهو النظام الثقافي الاجتماعي السائد في الغرب، الذي أظهر خلال النصف الثاني من القرن العشرين ومطلع هذا القرن، وهي سنوات التفاعل الإسلامي المسيحي في بلدانه بفعل الهجرة، فشلاً ذريعاً في تحقيق ما يدّعيه من دولة القانون والمساواة، ووقوعه في حبائل عنصرية يغذيها ركود اقتصادي، وتشحذها موجات تطرّف ديني أو عرقي، وشعوذات دخيلة على الأديان تسعى لأسباب تتصل بـ»إسرائيل» كالكنائس المتصهينة، تبث الكراهية للإسلام والمسلمين، والرابع هو السياسات العامة لدول الغرب التي لا يمكن إلا ان تحمل للمسلم المقيم في الغرب أو الحامل لجنسية دولة من دوله، إلا الشعور بالعداء، فالغرب داعم لـ«إسرائيل» بلا بصيرة ولا تبصّر، ومتجاهل لمعاناة وعذابات الشعب الفلسطيني، وقضيته التي لا تزال ذات وزن وتأثير كبيرين في الوجدان الجمعي للمسلمين، وعموم العرب المهاجرين، وفي المقابل يقف الغرب الحامل لدعاية وادّعاءات الديمقراطية وحقوق الإنسان في ضفة أشدّ أنظمة المنطقة تخلّفاً وأكثرها انتهاكاً لهذه القيم، بخلفيات مصلحية انتهازية تتصل على الأقلّ بنهمه النفطي، حيث تصطفّ الحكومات الغربية كمسؤول عن كلّ الشرور اللاحقة بالعالمين العربي والإسلامي.
– في بلاد الشرق يبقى التطرف برانياً كمورد للإرهاب، فهو أعجز من تشكيل حالة قتالية جدية لولا تبنّيه ودعمه ومساندته مالياً وتسليحياً وتقديم العون له عبر حدود دول، وكلّ ذلك بفعل التدخل الغربي، ومتى توقف الغرب عن هذا المخطط الجهنّمي بفعل مخاطر ما يرتدّ عليه سيظهر التطرف ضامراً نحيلاً، وعندها بلا مرجعية تقوده من الخارج وتحوّله مجرد اجتهاد متخلّف في فهم الدين، سيصبح مجرد داعم للتطرف الذي يضرب في الغرب عكس الصورة القائمة اليوم تماماً، فيصير التطوّع معكوساً والهجرات معكوسة، لأنّ الآخر الأصلي هو هناك وليس هنا في عقيدة المتطرفين، الذين لم يستطيعوا حتى اليوم إنتاج تبرير ديني متماسك لاستهدافهم سورية والعراق، سوى أنها فرصة أتيحت لقيام «دولة الخلافة»، وعلى هذا المستوى من المقارنة ليس من جذر عرقي إتني للآخر الذي يجب قتاله هنا، ولا من تنافس اقتصادي اجتماعي، ولا من سلطة عنصرية بلون ابيض أو تدين مقابل إلغائي إقصائي استئصالي، وحجم مساحة الحرية في التدين متاح تحت سقوف مقبولة، ولا توازنات تحول دون دخول لعبة السلطة بالقنوات السياسية، فقد فاز بها الإخوان في مصر وتونس، وفازت حركات إسلامية في الجزائر ويمكن لغيرهما أن يفوز، أما الاضطهاد السياسي والقمع والاختلال الفاضح بموازين القوى، فأسباب كافية في الغرب لجعل الأعمال الإرهابية خياراً مغرياً للمتطرفين.
– يحتاج قادة الغرب ومفكروه ونخبه إلى درجة عالية من التأمّل في ظاهرة الإرهاب والتطرف وكيفية إدارة حرب تبدو طويلة معها، تستدعي التواضع أولاً، والتهيّؤ لفرضية تعافي الشرق من التطرف والإرهاب وابتلاء الغرب به لزمن طويل آت، ما لم تطلّ المعالجات ما هو أبعد من الأمني لتطال الجذور وتسعى لتجفيف المصادر بمعالجة أسبابها.