بريطانيا.. والبحث عن هوية
نظام مارديني
لم يكن اغتيال النائبة البريطانية العمالية جو كوكس، المؤيدة للقضية الفلسطينية وللبقاء ضمن الاتحاد الأوروبي، في شمال انكلترا قبل أسبوع من الاستفتاء، شيئاً عابراً، خصوصاً أن المهاجم الذي أطلق النار كان يهتف «بريطانيا أولاً»، ولذلك جاء اغتيالها في هذه الأجواء المشحونة التي سبقت الاستفتاء.
ولكن أياً تكن نتيجة الاستفتاء الذي جرى أمس، ويصدر اليوم لتحديد ما إذا كانت بريطانيا ستبقى في الاتحاد الأوروبي أم سترجع إلى هويتها الذاتية، فهو، أي الاستفتاء، خيار صعبا ومحير، باعتباره لحظة تاريخية فارقة ستحدد هوية هذه المملكة العجوز.
في اليوم الأول الذي يلي الاستفتاء، وفي حالة التصويت بالخروج، لا شيء سيتغير في هذه اللحظة من الناحية الواقعية، عدا أن تبدأ الحكومة في التفكير في الاستراتيجية التي يجب انتهاجها لمغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي، ولكن أوساط المال حذرت من عواقب خطيرة على الاقتصادين المحلي والعالمي في حال الخروج من الاتحاد، وهو ما أشار إليه بنك انكلترا بالقول، إن نتائج الاستفتاء السلبية ستشكل «أكبر خطر فوري» على الأسواق المالية البريطانية والعالمية، في حين رأى البنك المركزي البريطاني «أن النمو البريطاني قد يتراجع».
ولكن إذا ما نجحت القوى المؤيدة للاتحاد الأوروبي، في الحيلولة دون «الخروج البريطاني»، فإن ذلك لن يكون راجعاً لأي حب لأوروبا من جانب الشعب البريطاني، كما قد يتبادر للأذهان للوهلة الأولى. فبالنسبة لهم، مازالت أوروبا تعتبر مكاناً منفصلاً عن جزيرتهم، أو كتلة من اليابسة، تقع بعيداً عبر مساحة ضبابية من الماء، تُدبَّر فيها خطط الغزو، وتختمر فيها الأزمات، وتولد فيها البيروقراطيات.
ومن أجل صدّ الجحافل المغيّرة من القارة الأوروبية، بنى الإنكليز في العصور الوسطى، قلعة حجرية ضخمة على قمة منحدرات «دوفر» الحادة، وحصّنوها بأسوار سميكة يبلغ ارتفاعها 21 قدماً، ويقوم على حراستها جنود ملكيون، في حالة تأهب دائم، للتصدي لأي أحد يجرؤ على التعدي على جزيرتهم، التي فصلتها الطبيعة، عن البر الأوروبي.
هذا الافتقار للرابطة العاطفية مع أوروبا – بل وحتى العداء الذي يشعر به البعض تجاهها – يفسّر السبب الذي جعل المواطنين البريطانيين، متلهفين للخروج من الاتحاد الأوروبي، على الرغم من الإجماع الكاسح من جانب الخبراء، على أن ذلك الخروج يمكن أن يكون كارثياً بالنسبة لبريطانيا من النواحي الاقتصادية، والسياسية، والاستراتيجية.
يقول «ريتشارد ويتمان»، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة «كنت»، التي لا تبعد سوى مسافة قصيرة عن دوفر في كانتربري: «بريطانيا لها سردية مختلفة جد الاختلاف عن دول الاتحاد الأوروبي»، فبريطانيا انضمّت للمنظمات السابقة على تأسيس الاتحاد الأوروبي، كما يشير «ويتمان» لأنها شعرت بأنه لم يعُد لديها بدائل أخرى لصياغة هويتها بعد الحرب، وما بعد عصر الإمبراطوريات، ولذلك كانت عضويتها متأرجحة منذ البداية.
بعد مرور ثمانية قرون على بناء القلعة في «دوفر»، لا يزال الإنكليز المعاصرون غير متأكدين تماماً، مما إذا كانت شعوب البلاد التي لا يفصلهم عنها سوى الماء، عدوة أم صديقة!؟
الاستفتاء.. هو المدنيّة، بطبيعة الحال، التي يكرهها أصحاب الإسلام السياسيّ، كما لا يكرهون أيّ شيء آخر.